حينما تصبح أزمتنا قضية الفلاسفة

TT

مؤخراً شعرت بالحاجة لاستشارة آراء بعض فلاسفة فرنسا وربما أوروبا وامريكا في الأزمة التي نتخبط فيها حالياً. فنحن بحاجة إلى تشخيصات دقيقة لهذه الأزمة التي دشنت القرن بفرقعة لا سابق لها والتي يبدو أنها سوف تشغله لفترة طويلة من الزمن، ومؤخراً سمعت بعضهم يقول بأن مشكلة العالم الإسلامي مع الحداثة سوف تكون أهم مشكلة للقرن الواحد والعشرين.. وبناءً على حلها يتوقف مصير العالم أو توازنه.

ربما أن مشكلتنا لم تعد مشكلتنا وحدنا، بما أن شظاياها وصلت إلى زوايا العالم الأربع وليس فقط إلى مركز التجارة العالمي في نيويورك فإن فلاسفة الغرب وكتابه أصبحوا يتدخلون فيها وكأنها مشكلتهم الشخصية! وعندما أقول فلاسفة الغرب فإني لا أقصد فقط المستشرقين الذين يهتمون بالشؤون العربية الإسلامية بحكم اختصاصهم. وإنما أقصد الفلاسفة والمثقفين بشكل عام، فنادراً أن تفتح جريدة أو مجلة فرنسية أو انجليزية دون أن تجد فيها مقالة عن الإسلام والعالم الإسلامي ومستقبل العلاقات مع الغرب، وصراع الحضارات، الخ..

أكتب هذه الكلمات وأمامي مجلة «التاريخ» الفرنسية التي كرست عددها الخاص هذا الشهر للموضوع التالي: الدين والسياسة والتحدي العلماني. وقد ساهم في كتابة المواد نخبة من المثقفين ليس أقلهم جاك لاغوف المؤرخ الشهير، ومارسيل غوشيه الفيلسوف الذي شغل الأوساط العلمية بأبحاثه عن الدين المسيحي والسياسة وكيفية تشكيل الحداثة من خلال الصراع الجدلي بين التراث المسيحي الراسخ الجذور من جهة، والأفكار الفلسفية والعلمانية المستحدثة من جهة أخرى. والشيء الغريب أو المدهش الذي نستخلصه من كلام جاك لاغوف هو أن نظام الحداثة العلماني أقرب إلى جوهر الدين من النظام الثيوقراطي اللاهوتي الذي سيطر على الغرب حتى انتصار التنوير على المستوى الفكري والثورة الانكليزية فالأمريكية فالفرنسية على المستوى السياسي.

لقد ناضل الأوروبيون على مدار خمسة قرون ـ أي منذ عصر النهضة في القرن الخامس عشر ـ وفي القرن العشرين من أجل التخلص من هذا النظام الفكري القروسطي. وبعدئذ تشكل المجتمع المدني على أسس جديدة هي ما يدعونه: بالفلسفة السياسية الحديثة. وهي التي حلَّت بالتدريج محل الفكر وأبطال هذه الثورة الفلسفية التي أدت إلى تخليص السياسة ـ أي الحياة العامة ـ من براثن الفكر القديم هم بالطبع: هوبز وجون لوك في القرن السابع عشر، وجان جاك روسو وايمانويل كانط وفولتير وكوندورسيه ومعظم فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وهذه الحداثة السياسية لا تعني فرض الإلحاد على المجتمع كما يتوهم الكثيرون عندنا في العالم العربي أو الإسلامي. فالكثيرون من فلاسفة التنوير كانوا مؤمنين بالمعنى الروحاني أو الميتافيزيقي للكلمة. ولكنها تعني شيئين أساسيين: الاعتراف بالتعددية الدينية أو الروحية داخل المجتمع، وعدم فرض الدولة لأي مذهب أو دين بصفة الدين الرسمي الذي يحذف ما عداه. ولكن، هناك شيء آخر شديد الأهمية ولا ينبغي أن يغيب عن البال ألا وهو: ان الرابطة التي تربط بين مختلف أفراد المجتمع لم تعد طائفية أو دينية وإنما أصبحت قومية وانسانية وسياسية.

يضاف إلى ذلك أن مشروعية السلطة لم تعد مستمدة من الكنسية أو الكهنة أو البابا وانما من عموم الشعب. وبدلاً من ان كانت المشروعية شاقولية أو عمودية، أي نازلة من فوق إلى تحت، اصبحت أفقية عن طريق التصويت والانتخابات.

في ظل سيطرة هذا الفكر كان الانسان المسيحي هو وحده الانسان الشرعي أو الكامل: أي الذي يتمتع بكافة الحقوق.

وحتى داخل المسيحية كان هناك تمييز. فإذا كان المجتمع ذا أغلبية كاثوليكية كفرنسا أو ايطاليا أو اسبانيا فيا ويل البروتستانتيين الزنادقة!

وإذا كان ذا أغلبية بروتستانتية كانكلترا وهولندا والسويد والمانيا اللوثرية فيا ويلُ الكاثوليكيين البابويين! وفي عهد الفيلسوف جون لوك، أي في القرن السابع عشر، بل وحتى ما بعده بكثير، كانوا يضعون الكاثوليكيين والملاحدة في خانة واحدة من حيث الحقوق المدنية والسياسية أو بالأحرى انعدام الحقوق!

لماذا؟ لأن مذهب الدولة الرسمي، مذهب الملك وأغلبية الشعب، هو المذهب الانجليكاني البروتستانتي.

وحتى في امريكا احتج بعضهم على ترشيح جون كندي للرئاسة لأنه من عائلة كاثوليكية. بالطبع فإن هذا لم يمنعه من التوصل إلى سدّة الرئاسة بل وأن يصبح أحد أكثر الرؤساء شعبية في تاريخ امريكا. لماذا؟ لأن التنوير كان قد مرّ من هنا ولأن الدستور الأميركي يمنع منعاً باتاً التمييز بين المواطنين على أساس مذهبي أو طائفي، كل المواطنين متساوون أمام القانون ومؤسسات الدولة وإدارتها. والمنصب الأفضل هو للمواطن الأكثر كفاءة وليس لابن عمي أو عشيرتي أو طائفتي. على هذا النحو تتقدم الأمم وترتقي. وهذه هي الطريقة الوحيدة لترسيخ الوحدة الوطنية وتحاشي الحروب الأهلية والانقسامات والحزازات بين مختلف فئات المواطنين. ولكن لا يمكن التوصل إلى هذا الهدف قبل تفكيك مشروعية القرون الوسطى الراسخة رسوخ الجبال وإحلال مشروعية حقوق الانسان والمواطن محلها.

لكي أوضح الأمور أكثر سوف أروي بهذا الصدد النادرة التالية: أثناء بلورة الدستور الأميركي عام 1776م أي قبل أكثر من مائتي سنة، حصلت مناقشات صاخبة. فالآباء المؤسسون للجمهورية الأميركية أي جورج واشنطن، وبنيامين فرانكلين، وجيمس ماديزون، وجون أدامز، وتوماس جيفرسون، كانوا جميعهم من أنصار الفصل بين الكنيسة والدولة وإعطاء جميع المواطنين نفس الحقوق أياً تكن أديانهم أو مذاهبهم أو أعراقهم.

وعندئذ طرح أحدهم التخوف التالي: وماذا لو توصل شخص محمدي «أي مسلم» أو حتى شخص ملحد إلى رئاسة الدولة؟! وكان الجواب هو التالي: إذا ما انتخبه الشعب فليكنْ! ثم بعد كل ذلك يتحدثون لك عن امريكا وكأنها أصولية مثل افغانستان أو باكستان! هذا في حين أنها أمة مستنيرة منذ مائتي سنة على الأقل. أقول ذلك وأنا أغض الطرف عن الجماعات المتعصبة لليمين المسيحي المنتشر في الولايات الجنوبية بشكل خاص ولكنها تظل أقلية بالقياس إلى التيار العريض للمسيحية الاميركية. ما علاقة كل ذلك بأزمة العالم الإسلامي؟ على هذا السؤال يجيب الفيلسوف مارسيلو غوشيه صاحب كتاب «الدين في عصر الديمقراطية» قائلاً: العالم الإسلامي غاطس الآن في نفس الأزمة التي عاشها العالم المسيحي عندنا في القرون السابقة قبل تشكل الحداثة أو بالأحرى في اثناء مخاضاتها وتشكلها العسير، فالولادات دائماً صعبة ولا تتم عادة بدون آلام مبرّحة. وولادة الحداثة الفكرية والسياسية في العالم الإسلامي سوف تكون أكثر صعوبة من ولادتها عندنا.

لماذا؟ لأن الأزمة عندنا كانت بفعل عوامل داخلية لا خارجية وقد استغرقت عدة قرون وأخذت كامل وقتها حتى حلَّت. وبالتالي فقد حصلت الولادة بشكل طبيعي لا اصطناعي. وأما في العالم الإسلامي فإن الحداثة تهجم عليهم من الخارج ومن قبل هذا الغرب المكروه والمرغوب في آن معاً. ولكن الوهم الكبير الذي يسقط فيه المسلمون، وبخاصة الأصوليين منهم، هو انهم يعتقدون بإمكانية استيراد الحداثة المادية والتكنولوجية، والإبقاء على النظام القديم للفكر كما هو، فهذا مستحيل. وبالتالي فالثورة الفلسفية والتنويرية للعالم الإسلامي آتية لا ريب فيها.

ثم يردف مارسيل غوشيه قائلاً: والمجتمع الأكثر أهمية بهذا الصدد هو المجتمع الإيراني الذي شهد ثورة دينية حقيقية، فبعد ربع قرن من ذلك التاريخ نلاحظ أن محاولة المحافظين فرض النظام الأصولي على المجتمع قد فشلت فشلاً ذريعاً أو في طريقها لأن تفشل. فقد أرادوا تشكيل مجتمع ثيوقراطي قروسطي فإذا بالنتيجة تجيء عكسية ونلاحظ أن الشبيبة الإيرانية أصبحت مياّلة أكثر فأكثر إلى النظام الليبرالي الديمقراطي الحر الذي يعتبر الإيمان والعبادات مسألة شخصية ولا ينبغي أن تُفْرَض على أحد بالقوة.

ثم يختتم الفيلسوف الفرنسي كلامه قائلاً: لا ريب في أن العالم الإسلامي يعيش اليوم أعمق أزمة في تاريخه وينبغي علينا أن نساعده لكي يخرج منها عن طريق اصلاح نفسه. فالمسيحية وبخاصة في مذهبها الكاثوليكي، قاومت الحداثة أيضاً وبعنف. ولكنها في نهاية المطاف استسلمت لمنطق العقل والعلم والعصر. وهذا ما سيحصل للأصولية الإسلامية بشكل أو بآخر.