الرفض الفضائي

TT

في مؤتمر الإعلام العربي وشجونه الذي التأم عقده أواخر الشهر الماضي في برلين أخذت قناة «الجزيرة» ثلاثة أرباع الحوار وتلتها «العربية». أما بقية الفضائيات فلم يذكرها أحد وكأنها ـ ياحرام ـ غير موجودة.

ومن خلال الخبراء الذين يدرسون الأرقام ويحللونها وهؤلاء يختلفون عن جماعة «جعجعة ولا طحين» اكتشفنا ان موقع «ايلاف» هو الأكثر مقصودية من قبل الشباب العربي بين ثلاثة مواقع إليكترونية بينها الـ«بي بي سي» وطبعا «الجزيرة» التي صارت ظاهرة لوحدها.

وقد فوجئت بثقة الزميل طارق الحميد في مقاله عن الاعلام الخميس الماضي، وهو يتنبأ بتغير في السياسات التحريرية لتلك القناة، استنادا الى معلومات عن تطمينات قطرية للأميركيين قدمها حمد بن جاسم آل ثاني لكوندي مستشارة الأمن القومي عن التغيرات المرتقبة.

والمفاجأة ليست في المعلومة فقد تكون موثقة ودقيقة، ولكن في تصديق ان أصحاب الجزيرة يمكن ان يقدموا على ذلك بسهولة فتغيير طبيعة «الجزيرة» أصعب من تنظيم انقلاب في قطر، لأن ذلك لو حصل فسوف يكون هو الانقلاب الحقيقي في الاعلام والسياسة لمنطقة بكاملها.

لقد كان الأميركيون قادرين على الدوام على التأثير في القرار العربي في أي مكان وما كان سيصعب عليهم تخفيف لهجة قناة تلفزيونية أو حتى اغلاقها اذا اقتضي الأمر، لكنهم كانوا دوما يعرفون ان الرفض الفضائي غير مكلف، طالما انهم متحكمون في القرار الأرضي.

ان الذي يحير هؤلاء ان أمانيهم شيء وما يجدونه على أرض الواقع في العالم العربي يختلف تماما عن الرغبات والأماني، ومن هنا تنبع عصبيتهم ويصعب فهم أسلوبهم في التعامل بين لافتة التغيير الديمقراطي الذي يتحقق بالحوار والعصا الغليظة، المرفوعة فوق رؤس الجميع، وعليها بالأميركي الفصيح: العصا لمن عصى وأيضا لمن أطاع.

في العراق توقعوا ان يتم استقبالهم بالزهور فوجدوا الرصاص، وتوقعوا ان يجدوا تعاونا من جميع دول الجوار، فوجدوا أنفسهم في مشاكل لا حصر لها مع سورية وتركيا وايران، وإلى حد ما الأردن، الذي كان معهم كالفرزدق في وصف الإمام زين العابدين:

ما قال لا قط إلا في تشهّده

لولا التشهّد كانت لاؤه نعم

وخلال هذه الأزمات كلها كانت سياسة قطر الفعلية مختلفة عن السياسة التحريرية للجزيرة، ولا علاقة لها بكل ذلك الرفض الفضائي الصارخ دون أن يعني ذلك فقدان السيطرة ودون أن يعني أن الدولة لم تكن تستثمرالقناة لتعزيز وجودها في القرار والحوار واقتراح البدائل وطرح نفسهاكوسيط على كل الجبهات.

في هكذا مناخ صارت المعادلة واضحة وارتبط المصيران فإما قناة مجعجعة منتشرة تفيد دولة المنشأ وتعزز دورها الاقليمي، وإما قناة هادئة كبقية أخواتها الفضائيات المسكينات تلغي بالتدريج جميع أو معظم المكاسب التي حققتها الدولة وتعيدها الى حجمها الطبيعي، والخيار الثاني غير ممكن لأنه لا بديل للنجاح غير الفشل، وصانع القرار القطري أذكى من ان يقدم مختارا على هكذا خطوة، مهما كانت وعوده.

ان الجراحة التجميلية واردة، لكن تغييرطبيعة القناة ـ ودعك من مواثيق الشرف المهني والوعود ـ غير ممكنة، لذا سيتعامل الأميركيون مع الرفض الفضائي ممثلا بالجزيرة انطلاقا من سياسة الأمر الواقع كما تعاملوا مع أحمد الجلبي، الذي ابعدوه عن الرئاسة والحكومة، لكنهم لم يلغوه نهائيا، إنما احتفظوا به كقائد مرموق للمعارضة العراقية المستأنسة التي ستظهر في الوقت المناسب، فالديمقراطية معارضة وموالاة ولن يضير الاميركيين من يشتمهم صباح مساء، طالما أنهم يعرفون أن كلام الهواء يظل في الفضاء، أما على الأرض فقصة تختلف تماما عن كل ذلك الرفض والتشنج المتقن، الذي لا يؤذي غير حناجر مطلقيه، الذين يرون الفيل، ولا يعرفون من يتحكم في الرسن.

[email protected]