عندما يصبح مقتدى الصدر مأزقا

TT

تحدثت حياة شرارة استاذة الادب الروسي في جامعة بغداد، والتي انتحرت مع ابنتها هروباً من الضغوط التي تعرضت لها النخب المثقفة والاكاديمية في ظل النظام السابق، واصفة في مقدمة روايتها «اذا الايام اغسقت» مدينتها النجف، بأنها تصدر العمائم وتستورد الجنائز، اما اذا بقي الوضع المأزوم فيها، فستتعطل مصانع العمائم، أي اروقه العلم، وستصبح النجف ليست مستوردة للجنائز بل منتجة لها.

شكل تيار الصدر الثاني احد أهم الظواهر التي تكشفت بعد انهيار النظام، اذ لا يبدو ان أحدا كان يتوقع وجود تيار سياسي، نشأ ونما في معزل عن الحركة السياسية للشيعة العراقيين خارج العراق، تيار مستقل عن حزب الدعوة الذي انتقل للعمل خارج العراق، وعن المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق، كما انه ضعيف الارتباط بالحوزة التقليدية، وهو تيار نما في ظل قيم ارسى بعضها النظام السابق، وفي ظل آثار حروبه المدمرة الثلاث، ونبت في احزمة الفقر والعشوائيات التي تحيط بالمدن. الا ان هذا التيار وان نجح بأن يقدم خطاباً متصدياً مناهضاً للاحتلال، الا انه فشل في بلورة رؤى وبرامج، فمأزقه مع اتباعه ومناصريه انه يجب ان لا يقدم لهم الموت المجاني فقط، بل ان يتعاطى مع الممكنات التي تنهي الظروف التي تبقي اتباعه على تخوم الخارطة السياسية وعلى هامش المجتمع، لذا، وان بدأ همساً، الا انه سرعان ما تعالى السؤال بين اتباعه ذوي الحد المعقول من التعليم، ترى ما الذي نريده؟

بقيت المرجعية الدينية في النجف وفية ومحافظة على خطها التقليدي، بالابتعاد عن العملية السياسية والاكتفاء بالدور الارشادي والقيمي، فيما تحاول بجانبها مرجعية اخرى ان تقفز، وان تتسع على حسابها، وأن تضع نفسها في قلب التغييرات، وتطمح ان تقودها حتى ولو اقتضى ذلك العنف. الا ان مأزق المرجعية الابرز انها لا تستطيع ان تدعو الى نزع سلاح اتباع الصدر، لكي لا يبدو انها تمرر مطالب امريكية على لسانها، فضلاً عما يمكن ان يفضي اليه الاستفراد به واعتقاله وقتله. وهذا آخر ما تريد ان تقترب منه، ومن ناحية اخرى، فهي تريد ان تنأى بالنجف عن المظاهر المسلحة والاقتتال وسيطرة الميليشيات. لذا بادر السيد السيستاني للاتصال بالحكومة، طالباً ان تفتش بيوت النجف بحثاً عن السلاح ابتداء من بيته.

اما دليل مأزق الاحزاب الشيعية المشتركة في الحكم، فهو أنها تتكلم بلغتي خطاب، في العلن تدعو للحل السلمي واستنفاذ الحلول السياسية وعدم اللجوء الى القوة معه، فيما تنتظر، في السر، من يأتي لها بالبشارة بإنهاء هذا التيار، وعلى أسوأ الفروض ترويضه، اذ ان بقاءه يهدد بانقلاب على المسرح الشيعي بل العراقي برمته، اذ انه سيهدد المكاسب المضمونة التي سيأتي بها صندوق الاقتراع.

وبجانب هؤلاء، هناك من يرى بأن هذا تيار شيعي يجب عدم اضعافه، لأنه يضم جماهير واسعة من المؤيدين المندفعين والمضحين، والذين يجب ان تدخر قوتهم لمواجهة أي عودة للنظام السابق بهيئة جديدة، ولكنهم، في الوقت نفسه، لا يفضلون ان يقوى هذا التيار الى الحد الذي يقوض الحكومة الحالية، التي يرون فيها ضمانة لوحدة العراق واستقراره، وتحقيق الانتقالات السياسية المطلوبة، فهم في مأزق لا يريدون لهذا التيار ان يقوى ويسيطر، ولا يريدون له ان ينتهي ليصبحوا بلا ذراع.

ومن هنا تحول مقتدى الصدر الى مشكلة لحكومة اياد علاوي، فهي الأخرى لا تستطيع ان تنحني لمطالبه، ولا هي قادرة على شطبه وتجاهله، ولا هي قادرة على تنظيم التعامل معه. فبقاؤه يمثل مشكلة لها، فيما سيفاقم أسره او قتله من مأزقها. وحتى وان بدا ذلك هدفاً مغرياً لبعض مناوئيه، الا انها، وعندما تفكر ثانية، فإنها تدرك بأن من شأن ذلك ان يجعل منه شهيداً، وبالتالي رمزاً، بينما غيابه سيؤدي الى انفراط عقد جماعته الى مجموعات صغيرة غير مسيطر عليها، ترتكب اعمالا انتقامية وتمارس اعمالا مسلحة بجيوب وقيادات مناطقية.

والى ذلك، فاختبار الحكومة ومهمتها الاولى هما بسط الامن، في حين ان الهجمات التي تشن من الجماعات المسلحة تهدد بعرقلة كل شيء، بما في ذلك مراحل الانتخابات القادمة. ومن هنا فما يحصل الآن، وفي الاشهر القليلة القادمة، وفق ما تراه الطبقة السياسية المشتركة في الحكم والمتفاعلة معه، هو ولادة عراق ديمقراطي، في حين ان بقاء المليشيات يؤذن بإجهاض هذا الوليد، والسيد مقتدى لا يكف عن الاعلان في خطبه بأنه يعمل على إفشال المشروع الغربي في العراق.

في المقابل تدرك الحكومة بأنها تحت المجهر، وعليها أن تنجح بإثبات قدرتها على بناء نظام حكم يجمع العراق فتبسط سيطرتها عليه، وذلك لا يتم الا عندما تكون هي فقط، كما يقول فقه السياسة، المحتكرة للقوة الشرعية. لذا فهي عندما اختارت وابتدأت بالنجف، فإن ذلك يستبطن رسالة واضحة، اذ لا أهم من المدينة ولا اقدس من الضريح ولا اقوى من التيار، وهذه ابلغ رسالة يتم ارسالها لباقي الجماعات والمناطق التي تعيش في اختلالات أمنية مزمنة.

أما امريكياً، فقد تحول العراق الى مفتاح هام في المعركة الانتخابية، وبقاء عدم الاستقرار والفوضى من شأنه أن يفقد الصورة التي تريد أن تقدمها الحكومة أي بريق. ولذا يصبح القضاء على الانفلاتات الامنية وحكم الجماعات المسلحة ضرورة، لا سيما مع وضوح ارتباطات بعض دول الاقليم الفاعلة سلباً في الشأن العراقي، وذلك لإفشال الادارة الامريكية الحالية، على أمل الاتيان في نوفمبر بإدارة ديمقراطية تغير من استراتيجية الحرب الاستباقية، وخطط دمقرطة المنطقة، فتتبدل عندها الاولويات. وهذا يناهض ايضاً من رغبة الحكومة العراقية التي ألقت كل اوراقها في سلة الادارة الحالية، وارتبطت معها بتحالفات وبعمل يجب أن ينجز، في حين ان بقاء التأزمات التي يثيرها الصدر تلقي بظلالها على خيارات الناخب الامريكي.

وهنا يأتي تدخل القوات الامريكية، وهو وإن بدا ضرورياً، لكنه مكلف، لأن آخر ما تحتاجه تلك القوات هو الدخول في مواجهة مع الطائفة الشيعية، ولكن من دون ان تجازف بإثارة سؤال عن سبب انتقائها لهذه الفئة العراقية التي عانت في عصر صدام، فيما يتم الآن التصدي لها بعمل تأديبي، تدور فيه المعارك في شوارع مدنها وفوق مقدساتها. ومع ذلك فالمراهنة على هذه المخاوف، واعتبارها كوابح، يجب أن لا تذهب بعيداً، فعندما تكون الأمور على حساب البقاء في الحكم، لا أحد يريد أن يفشل.

* كاتب عراقي ـ أستاذ العلوم السياسية بجامعة بغداد