تصدياً للتدليس .. هذا هو معنى الحكم

TT

لم تتخذ كلمة «الحكم» في اللغة العربية بمعنى تولي وممارسة السلطة السياسية، كما لم تُحدد كلمة «الحاكم» بصاحب القرار السياسي والقائم على أمره، ولا كلمة «الحكومة» بالسلطة السياسية التنفيذية، إلاّ في حوالي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، عند مواجهة فكر النهضة العربية الحديثة لمفاهيم الفكر السياسي الأوروبي في فصلها بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وقد بدأت معها سلسلة مصطلحات القاموس السياسي العربي في الانتشار.

فما أصل معنى «حكم»، كما ورد في القرآن وأمهات الكتب؟

إن المعنى المقصود لمصطلح «الحكم»، بمعنى تولي وممارسة السلطة السياسية، لم يرد في الاستعمال اللغوي عند العرب لا في الجاهلية ولا في صدر الإسلام، والأهم من هذا أن القرآن الكريم نفسه والسنة النبوية وسائر المصادر الإسلامية الأولى، لم تتناوله بهذا المعنى أيضاً، وإنما وردت في تلك المراجع معان كثيرة ليس من بينها الطرح السلطوي السياسي الذي شاع استعماله عربياً.

قال الله تعالى:«يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً». فهل من المعقول تولي السلطة السياسية ليحيى وهو صبي! لذا ترى كتب التفسير والمنطق يقرران بأن المراد بالآية إنما يدور حول الحكمة والقدرة على التمييز بين الحق والباطل، وهو المعنى الأساسي لكلمة «الحكم» في القرآن الكريم. ألم يوصف القرآن نفسه بأنه «حكم عربي» حين قال عز وجل: «وكذلك أنزلناه حكماً عربياً..»!

كما ورد في شأن عيسى عليه السلام قوله تعالى:«ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس كونوا عباداً لي..»، وحيث أن رسالة عيسى بن مريم لم تتضمن دعوة سياسية، إذن لا يجانبنا الصواب إذا قلنا إن الحكم الذي آتاه الله في الآية الكريمة مع الكتاب والنبوة هو الحكمة والتمييز، فمن المعروف عن التراتب النصي لكلمة «الحكم» في الآيات القرآنية أنه لا يخرج عن «الكتاب والحكم والنبوة»، أي أن الحكم يسبق النبوة ويلي الوحي مباشرة، في إشارة إلى أن النبوة لا تكتمل من دون بصيرة نافذة. وفي إطار المعنى القضائي للحكم ـ وليس السياسي ـ، ولنقرأ خطاب الله لرسوله الكريم صلوات الله عليه وسلم في مقدار الدية بين فئتين متخاصمتين من يهود المدينة: «فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم»، وهو حكم قضائي يجوز أن يتشارك في تقديره أحياناً أكثر من حاكم كما في الآية: «يحكم به ذوا عدل منكم».

أمّا إذا أتينا إلى السلطة السياسية التي تمتع بها بعض الأنبياء وغيرهم من الشخصيات التاريخية، فنجد أن القرآن الكريم يستخدم عند ذكرها المصطلح السياسي العربي المتعارف عليه بشأن سياسة الدول وهو «المُلك». يقول النسق الاصطلاحي القرآني في هذا الصدد :«فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً»، فتكرر لفظ «آتيناهم» للتفريق بين عطاء المُلك العظيم عن عطاء الكتاب والحكمة. وصفوة القول إن مفهوم «الحكم» القرآني ـ دينياً وقضائياً ومعرفياً ـ هو أعمق بكثير من المعنى السياسي الذي انحصر فيه الخطاب العربي والإسلامي المعاصر.

فإذا علمنا أن الحكم في الإسلام دائماً ما ترادف مع الحكمة، أي مع تحري الإصابة في القول والفعل، كما يفسرها الطبري، وأن الحكم في التحليل النهائي هو تلك المَلَكة والقدرة على الغربلة والتنقيح على المستوى الديني، وإحقاق العدل على المستوى القضائي، يتأكد لنا أن الإنسان عندما يحكم فهو لا يصدر أمراً تنفيذياً ولا يمارس سلطة، وإنما يزن بموازينه ويقدر بتقديره تقويمه للأشياء، سواء في الاعتقاد أو القضاء، أو حتى في أمور الأخلاق والمعرفة. والسؤال: ماذا بشأن الحكم بهذا المعنى على المستوى السياسي!

إن صاحب القرار السياسي بحاجة إلى الحكمة للتقدير والموازنة، ولكن بمجرد أن ينتقل بموضوعه إلى مرحلة التنفيذ، فإن الوضع في هذه الحالة يتطلب معه الإلزام والالتزام من قبل الجميع، وهو إجراء يعتبر من صميم طبيعة السلطة التي لا يمكن أن تتحقق باقناع الكل، وإنما لا بد لها من وازع يزع الناس كما يقول ابن خلدون. ثم ولم الاستغراب والحديث الشريف يقول: «من أطاع أميري فقد أطاعني»!، وهو ما يعني أن متطلبات السلطة حتى بالمعايير النبوية تفرض التقيد بالقرار السياسي ـ على مسؤولية صاحبه واجتهاده ـ وقت تنفيذه أياً كان رأي المعارضين له. إنها ظاهرة يراها المراقب قائمة حتى في أشد المجتمعات ديمقراطية وبرلمانية.

ومن هنا يتضح لنا أن مفهوم الشأن السياسي والسلطة السياسية في القرآن قد أتى بمعنى «الأمر»، وليس «الحكم». قال تعالى: «وأمرهم شورى بينهم»، ولم يقل «حكمهم»، فالشورى تختص بالشأن الدنيوي العام بين المسلمين، بينما «الحكم» خاص بالحقيقة والحق والعدل، وهي أمور لا دخل للشورى فيها، لأنها وببساطة تستند إلى شريعة ثابتة، ومقاييس معرفية أخلاقية مقررة لدى أهل الاختصاص بكل حكم. تقول بلقيس في النص القرآني للملأ من حولها: «أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون»، فلم تقل حكماً لأنه «أمر» قابل بسبب خلفيته السياسية للعرض على كبار القوم، وهم أنفسهم الذين أجابوا ملكتهم بعد المداولة: «والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين».

باختصار، الحكم الإلهي غير «الأمر» المتروك للإنسان في تسيير شؤونه العامة وفي مقدمتها الشأن السياسي، مما يُفضي إلى أن مجال الدين هو العقيدة والإيمان، ومجال السياسة هو الشورى والاجتهاد والقرار، وربما يعود سبب الخلط بينهما ـ الدين والسياسة ـ إلى أن نشوء الدولة في الإسلام قد جاء تالياً على ظهور الدين، أسستها جماعة وحدتها العقيدة الإسلامية فبدت وكأنها دولة دينية.

إن الإشكالية إلى يومنا هذا تراها تكمن في مفهوم الحكم السياسي وأسلوب السلطة وأشخاصها، وهذا لأن الدين لم يحدد للحكم أساساً غير الشورى بين المسلمين، وهو ترك إلهي مقصود، فلو وجد نص لانتفت معه الشورى التي تقوم على افتراض الخلاف والاختلاف، ومع هذا فقد جرى العبث البشري بهذا التسهيل الرباني، فأصبنا ـ نحن المسلمين ـ بلوثة التكفير دينياً لمن يختلف معنا دنيوياً، وذلك منذ عهد الخوارج احتجاجاً على تحكيم الحكمين في الظاهر، ورفضاً لسلطة الحاكمين ـ علي ومعاوية ـ في الواقع، وحيث أنه لا مجال للجدال حول الأصول، فإنه جرى البحث عن حجج ثانوية وتفسيرات منعطفية لإقحام الدين وإخفاء ما يكمن وراءه من أطماع سياسية، في ارتباك مؤسف بين «الحكم» الذي هو لله، وبين «الأمر» الذي يقع على عاتق الإنسان القائد والجماعة السياسية.

ولعل هذا الكلام يقودنا إلى ضرورة الالتفات إلى الآيات الثلاث التي درج على حشرها في مجادلات السياسة الإسلامية، وهي: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون»، و«ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون»، فمنطوق الكفر وكما وضّحه قدامي المفسرين ليس المقصود به الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، أو «الكفر الذي ينقل عن الملة أو الكفر الذي تذهبون إليه» كما قال ابن عباس، لأن مناسبة الآيات إنما تقول إنها نزلت في أهل الكتاب (اليهود بالتحديد) بشأن تقدير دية القتيل لديهم، وانحرافهم عما استقر عليه الحكم في شرعهم، أي أن المسألة هي حكم قضائي بحت يتعلق بتحقيق العدل الذي هو مطلب جميع البشر، مما يعني أن الآيات لم تتعرض لكيفية ممارسة السلطة السياسية واختلاف اختياراتها واجتهاداتها كما قد يتبادر إلى الذهن عند استعمال لفظ «يحكم» في عصرنا الحاضر.

وبعد، ألا يمكن أن يكون اللجوء إلى شعار «حكم الله»، أو «الحكومة الدينية» هو إعلان صريح بضعفنا أمام مشكلات واقعنا.

إن الإسلام قد فرق قطعاً بين حقوق الله وحقوق الإنسان: بين حكم الله في الكون، وتدبير الإنسان لشؤون دنياه، والاستيعاب الدقيق لهذه الحقوق معناه التصدي الحقيقي للنزاع المتأسلم.