مسؤولية (استخلاص) الإسلام.. من الذين (يصغّرونه) وهو كبير

TT

انتظم مقال الاسبوع الماضي: مناقشة لمقولة: ان الساسة في الولايات المتحدة اذ يربطون بين الدولة والسياسة وبين الدين، فإنما يفعلون ذلك بهدف (استغلال) الدين لا بدافع الاخلاص لله، وتعظيم تعاليم المسيح ـ عليه السلام ـ.. وقلنا: إن هذه المقولة تقوي التهمة، وتمنحها عمقا أشد خبثا يمثُل في عقد العزم السياسي على استغلال المسيحية، وعواطف المسيحية من أجل كسب سياسي، وهو كسب يضارب ويغامر ويقامر بقيم الدين وسمعته.

والحق: ان هذا الاستغلال: كائن في التاريخ والحاضر.. والحق ـ ايضا ـ: ان (الاستغلال السياسي للدين) ليس حكرا على ساسة أمريكا. فهناك يهود يستغلون الدين.

وهناك مسلمون يفعلون ذلك.. ومع أننا لا نقر استعمال مفردة (الاسلام السياسي) لما تتضمنه من خطأ علمي ومنهجي، فلا مانع من (المجاراة) التي يقتضيها الحِجَاج.. فإذا كان المقصود بالاسلام السياسي: اتهام الاسلام وتعييره بأن فيه (سياسة شرعية) ـ بمفهوم ادارة الدولة والمجتمع على اسس الحق والهدى والعدل والمصلحة ـ، فهذا اتهام مردود بعشرات الادلة العلمية والتطبيقية.. أما اذا كان المقصود بالاسلام السياسي هو: نقد ونقض (الاستغلال السياسي للاسلام): فنعما النقد والنقض، إذ ان هذا النقض مطلب دائم ومتجدد من مطالب منهج الاسلام، سواء تمثل هذا المطلب في: تقبيح المتاجرة بالدين: «اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون».. أو تمثل في (التظاهر الشكلي) أو الصوري بالدين. فقد اخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ان هناك علماء ومجاهدين ومنفقين يقذفون في النار بسبب انهم استغلوا علمهم وجهادهم وانفاقهم لأجل (الوجاهة الدنيوية).. أو تمثل في اتخاذ الدين (مطية) لتحقيق اغراض دنيوية تتناقض مع مقاصده: «ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه».

ونصعّد الصراحة فنقول: إن من المسلمين اليوم من يستغل الاسلام لتحقيق اهداف سياسية.. ومعيار ذلك: ان المستغل لا يلتزم بموازين الاسلام وقيمه على كل حال، بل (ينتقي) ما يتوافق منها مع مصالحه واهوائه، ويرفض ما عدا ذلك: «وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا اليه مذعنين».. ولنضرب مثلا.. ان من عزائم الاسلام: حض المسلمين على الاستمساك بـ(العنصر الاخلاقي) على كل حال. فمن مقاصد البعثة: تقويم الاخلاق. في حين أننا رأينا من يذبح الاخلاق ـ باسم الاسلام ـ ويضحي بها في سبيل هواه الشخصي أو الحزبي: يذبحها بالكذب، والغدر والفجور في الخصومة.

ومن الاستغلال السياسي البشع للاسلام: تعريض صورته للتشويه والتقبيح بحجة نصرته سياسيا بأفعال منكرة شائهة تصد ـ في الحقيقة ـ عن سبيله.

ما المقاييس الصحيحة لصحة التفكير والقول والفعل؟

هما مقياسان رئيسان:

1 ـ المقياس الاول لكل عمل صالح ناجح هو: الحرص على بقاء صورة الاسلام ناصعة جميلة مضيئة، لأن الاسلام: جمال كله، ضياء كله.

2 ـ المقياس الثاني لكل عمل صالح ناجح هو: مراعاة مصالح الامة وتحقيقها وتكثيرها واستدامتها.

بمقتضى هذين المقياسين: يُحكم على أقوال غلاة المسلمين وأفعالهم بأنها خائبة لذاتها، وبأنها انزلت أفدح الأضرار بالاسلام والمسلمين. فقد تسببت هذه الافعال الغالية المنكرة القبيحة في ايذاء الاسلام بتشويه صورته. وفي ايذاء المسلمين: إذ وضعتهم موضع المشبوه المتهم الذي يُراقب ـ كإرهابي ـ في المطارات، والطائرات، والجامعات، والمساكن.. وتسببت هذه الافعال في تعريض المسلمين للخوف والأذى المعنوي والمادي، وجعلت المسلم يشعر بالخزي والانكسار، ومكنت الدوائر المعادية من العمل على مضاعفة خطط تشويه اتباع الاسلام ـ الى غير ذلك من صور الأذى التي حاقت بالمسلمين في الغرب، بل في العالم كله.

ومن هنا، فإن السكوت عمن يبتدر فتنة تضر بالاسلام والمسلمين، انما هو نوع من انواع التعاون على الاثم، والتواطؤ على الشر: والله يقول: «ولا تعاونوا على الاثم والعدوان».. يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: «ويجب الاعراض عن (المتعدي) وترك النصر له، ورده عما هو عليه».. بل نستطيع ان نقول: إن هذا السكوت (استغلال سياسي للاسلام) من حيث الاغضاء عن الشناعات التي ترتكب باسمه، وهو اغضاء مبني على مقولة سياسية هي: ان النقد الصارم الحاسم لافعال هؤلاء الغلاة يفتح باب الطعن في (الصالحين) جميعا، أو يفتح الذرائع أمام (العلمانيين) للنيل من الاسلام ذاته.. وهذه مقولة سياسية باطلة بدليل: ان القرآن نفسه انتقد افعالا للصحابة أنفسهم دون خشية من جرح عامة الصالحين، ودون خوف من مطاعن المشركين ومن في حكمهم.

لقد حان حين اطلاق (حملة) فكرية سياسية ثقافية اعلامية: عميقة المضامين، واضحة المعايير، واسعة النطاق، طويلة الامد.. هدف هذه الحملة المحدد هو: استنقاذ (الاسلام العظيم) واستخلاصه من (الصغار) الذين (يصغّرونه) وهو كبير:

1 ـ استخلاصه من الصغار الذين يصغرونه بالاستغلال السياسي له.

2 ـ واستخلاصه من الصغار الذين يستغلون الاستغلال لكي (يصغّروا) الاسلام بجعله (مجرد وجهة نظر) لأولئك المستغلين له سياسيا.. فهذا الفريق استغل انحرافات أولئك ووظفها في طرح فكري وسياسي واعلامي ينتهي بـ(نقض) الاسلام نفسه، أو دحره الى زاوية جد ضيقة، وجد قصية.

والغريب ان بين الفريقين (نقط التقاء). منها: فقدان (النزاهة الفكرية).. والجرأة على (الفتيا). فالغلاة في الدين، سواء كانوا عاديين أو عنيفين: يمنحون أنفسهم حق الاجتهاد والفتوى بغير علم، ولا اهلية معتبرة.. وكذلك يفعل الغلاة في التفلت من الدين: يمنحون أنفسهم حق الاجتهاد والفتوى في الدين فيقولون ـ مثلا ـ: ليس هناك شيء اسمه (الشريعة)، واذا وجد، فإن هذه الاحكام لا تطبق الا على مستوى فردي!!.. وهؤلاء اذ ينتقدون خصومهم في الطرف المضاد، انما في الفتنة نفسها سقطوا: فتنة التشجيع والحفز على فوضى الفتيا، والاجتهاد السبهلل.

ومصدر الخطأ الأكبر عند هؤلاء هو: الخلط بين الاسلام (أي الكتاب والسنة) وبين المتحدثين باسمه. فقد يكره المرء داعية أو حزبا دينيا وينفر منهما نفورا شديدا لسوء رآه، أو لعقدة انشأها في نفسه متنطع، أو مغرور، أو فتّان في الدين. ومن حق كل انسان: ان يحب ويكره، ويأتلف ويختلف، ولكن ليس من حقه ـ قط ـ: ان يختل منهج العقل والعلم والعدل والخلق لديه: فيكره الاسلام ذاته بسبب شناعات متحدثين باسمه. فهذا خلط ظلوم جهول.. اذ الاسلام أعلى وأكبر من أن يكون (برنامج حزب). وأرفع وأعز وأعظم من أن يكون (قضية نزاع) بين من يسمون (إسلاميون)، ومن يسمون (ليبراليون) أو حداثيون.. ثم انه حرام على كل أحد ـ فردا أو جماعة ـ أن يقدم نفسه على انه هو الإسلام نفسه. وأن من خالفه فقد خالف الإسلام «!!».. فلقد امتنع الأئمة الكبار عن تقديم مذاهبهم بأنها هي الاسلام ذاته، وهو امتناع قضى به العلم والدقة المنهجية، والورع، وتفادي خطيئة حصر الاسلام العظيم في اجتهاد معين، مهما علا قدر المجتهد أو المجتهدين.

وهؤلاء الذين يوصفون بالليبرالية أو الحداثة:

أليسوا مسلمين؟.. إذن. لماذا يتركون الساحة لخصومهم (إن استقام التعبير). إن المسلم الذي لا تعجبه اساليب متحدثين باسم الاسلام، ولا مسالكهم: يستطيع هو نفسه: أن ينتهج منهجا: أعقل وأجمل وأقرب الى حقيقة الاسلام، وان يلتزم ذلك في خاصة نفسه، وتجاه الآخرين. وهذا هو الموقف العقلاني الايجابي الصحيح. وهو موقف معزز بأن ليس في الاسلام (احتكار) للحقيقة والصواب، إذ الشروط الموضوعية المعتبرة لفهم الاسلام هي: المصدرية العليا (الكتاب والسنة).. والعلم.. والمنهج.. والنزاهة الفكرية.. والتوق الى التجدد والتجديد.

لا ينبغي أن تضيع الامة بين طرفي نقيض من ابنائها، ولا ينبغي التهرب من تحديد المواقف بوضوح تام: هل هناك اله موجود واحد لا شريك له؟.. هل هناك قرآن أنزله هذا الإله؟.. هل هناك رسول تنزل عليه هذا القرآن، وكلفه بيانه وتطبيقه؟

هذه هي القضية الكبرى التي لا يجوز ان تصغّر بالاستغلال السياسي للاسلام، ولا ان تصغر باستغلال الاستغلال!!