الاستحقاق الرئاسي.. والدولة المنسية في لبنان

TT

لا بد في أي كلام على الاستحقاق الرئاسي اللبناني، وفي صورة خاصة على مشروع تعديل الدستور بخلفية التمديد أو التجديد لولاية رئيس الجمهورية، من العودة إلى الجذور التي تضرب في اعماق كينونة لبنان، أي إلى الاسباب الموجبة لهذا الدستور الذي لم يكتب لزمن معيّن بل لكل الأزمان.

ومن الوقائع التاريخية، أن هذا الدستور كتب على قياس مشروع دولة لا على قياس مشروع سلطة أو نظام أو انقلاب كما هي حال الدساتير التي كتبت للعديد من الانظمة المجاورة والبعيدة في زمن الانقلابات والديكتاتوريات المنبثقة عنها. وهو، في أي حال، بنيان مكتمل ومتوازن ومتراص، فإذا سقط منه حجر سقط البنيان كله. أمّا التمييز بين بنوده ومواده فهو اجتهاد خاطئ، فكلها بنود ومواد ميثاقية لا بعضها فقط، ومنها وخصوصاً تلك التي تنص على تداول السلطة على مستوى رئاسة الجمهورية كما على سائر المستويات. فالغاية من وجود الدولة اللبنانية هي التي تضفي على الدستور اللبناني الحرمة والمهابة، وهي التي تقضي بتداول السلطة ضمن آجال محددة.

فليست مصادفة أن كان هذا البلد ملتقى أديان ومعتقدات وثقافات، ولا هي مصادفة أن كان البلد العربي الوحيد الذي تنتقل فيه السلطة من السلف إلى الخلف، وفقاً لآلية دستورية معينة.

فلا انقلابات، ولا ثورات بمعنى الانقلاب، ولا ديكتاتورية مدنية أو عسكرية.

يفوت الكثيرين في أغلب الاحيان، وبخاصة الذين يقرأون من التاريخ بعضه من دون بعضه الآخر، أو يحذفون منه كل ما كان قبل الانقلاب والبلاغ رقم واحد.. يفوت هؤلاء أن ما قضى بوجود لبنان السياسي، أو الكيان اللبناني، هو الحاجة في هذه المنطقة إلى دولة لا تلتزم ديانة معينة، أو هي لا تدعي الدفاع عن ديانة معينة، مع ما يعني الأمر من خلط بين الدين وأمزجة الحكام، بين الدين وشهوة السلطة، ومع ما يعنيه ايضاً، وتاليا من قيود على من ليس على دين السلطان وقهر له ولو في ظل التسامح الديني أو المذهبي. ومن أجل هذه الغاية العظيمة كانت الدولة اللبنانية دولة تحترم كل الأديان، لا من قبيل التسامح بل على أساس أن حرية المعتقد حرية مطلقة ـ كما تقول المادة التاسعة من الدستور ـ حرية لا يحدها قيد، ومعناها أن الفرد أو الشخص حرٌ في أن يؤمن أو لا يؤمن، وحرّ أيضاً في أن يغير معتقده متى شاء وكيفما يشاء.

تلك كانت الغاية من تأسيس الدولة اللبنانية ولا تزال. وهي لأنها كذلك عرف لبنان بالبلد الذي فيه حريات وديمقراطية ولو متعثرة أحياناً، وتعددية ثقافية وسياسية، وتداول للسلطة.. وفيه ايضاً رؤساء سابقون، اضافة إلى العيش المشترك القائم على حرية المعتقد ايضاً لا فقط على التسامح، ولهذا السبب ايضاً كان لبنان جمهورية حقيقية، أي ديموقراطية، لا يختزلها الحزب الواحد أو الزعيم الأوحد والخالد. ولكن، أين هي هذه الدولة الآن، أو هذه الجمهورية، وهل لا تزال موجودة أم لا؟

الحقيقة أن ما بقي منها لا يتعدى الطقوس، وهذه السلطة السياسية ـ المخابراتية التي تدعي انها الدولة، عن قصد أم عن جهل، لا فرق، فالنتيجة واحدة. ان دولة أو جمهورية تحت الوصاية ليست دولة ولا هي جمهورية. والكلام عن دولة القانون والمؤسسات في ظل الوصاية، هل هو كلام باطل، سواء كان عن جهل أو عن معرفة. وغني عن القول أن الغاية من الوصاية هي غير الغاية من وجود الدولة اللبنانية ان لم تكن نقيضها.

وبكلام أكثر وضوحا: ان لمن المستحيل ان يكون لبنان دولة بالمعنى الصحيح فيما هو متنازل عن قراره السياسي في القضايا المتصلة بأمنه الخارجي. وليس سرا أن القرار في كل ما يتصل بالنزاع مع اسرائيل ليس في يده بل في يد القيادة السورية تمليه عليه من خلال وصاية معلنة ومكشوفة، فيها من التدخل في شؤونه ما يصل إلى حد الحلول مكان اللبنانيين في اختيار حكامهم على كل المستويات، حتى لو اقتضى الأمر تعليق الدستور لهذا الغرض أو تعديله.

ويدخل في هذا الاطار مشروع التعديل الدستوري الرامي الى تمديد أو تجديد ولاية رئيس الجمهورية، والذي هو في الوقت عينه تمديد للوصاية، مع كل انعكاساتها على أوضاع البلد، السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية. وعبثاً يحاول لبنان وقف التدهور في هذه الأوضاع طالما انه ليس مسموحا له بأن يكون مسؤولاً عن نفسه أي سيد قراره. أما ان يعود رئيس الجمهورية العماد اميل لحود فيجدّد التزامه خطاب القسم الذي مضى عليه ست سنوات، وبغية التجديد لولايته فأمر يدعو إلى التساؤل، لا حول النية والقصد، بل حول الجدوى من هذا الالتزام طالما أن الأسباب التي حالت دون وفائه بالعهد لا تزال اياها، ومنها وفي طليعتها الوصاية الخارجية المانعة لقيام الدولة الحقيقية، دولة القانون والمؤسسات.

ولا علاج لما يشكو منه لبنان من فوضى سياسية ودستورية وقانونية، ومن فساد، وضائقة اقتصادية ومعيشية، وتسيب، وضياع حقوق، وبطالة، وهجرة، ما دام احياء هذه الدولة مؤجلاً حتى السلام الشامل، أي حتى استرداد الجولان وقيام الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.

والأدعى إلى الدهشة أن يعود الرئيس لحود، في مناسبة الاستحقاق الرئاسي، فيؤكد على عزمه تحقيق هذه المعجزة، التي لم تحدث في أي بلد، وهي أن تقوم دولة بلا سيادة، وخصوصاً من حيث حق اللبنانيين في اختيار رؤسائهم وحكامهم، وفي محاسبتهم أو مساءلتهم عند الاقتضاء. ولعل الرئيس يظن أن بمجرد الأخذ بالخيارات السورية تصبح هذه الخيارات لبنانية، فتستقيم السيادة وتبدأ دولة القانون والمؤسسات تؤكد حضورها. إن اختزال السيادة على هذا النحو هو المشكلة مع الطبقة الحاكمة في هذا الزمن، لكن هذه السيادة الغريبة العجيبة لا تصنع دولة، فضلا عن انها لا تعفي لبنان من اعباء الهيمنة الخارجية على أحواله كلها. وعلى رغم التزام حكامنا الخط الاستراتيجي، أو القرار الاستراتيجي، وكل ما يعرف بالثوابت الوطنية والقومية، لا تزال هناك وصاية على لبنان. وفي الأمر ما فيه من دلالات على أن هذه الثوابت هي قيود على لبنان وإملاءات وليست خيارات.

نقول هذا كله تصويبا للسجال الدائر حول الاستحقاق الرئاسي الذي يراد له ان يظل في حدود مشروع السلطة المنتهي اجلها لكنها لا تريد ان تعترف بذلك، في ما المطلوب وبإلحاح، الحد الأدنى من مقتضيات الدولة التي يعينها الدستور ويحدد هويتها وأوصافها، والتي هي دولة لهذا العصر لا فقط لعصر مضى كانت فيه ايضا الدولة المتميزة. لقد كان اللبنانيون سباقين في التأسيس لدولة علمانية حقا، ولكن من زاوية الاحترام لكل الأديان. وبفضل هذا الخيار، الاستراتيجي ايضا كانت في لبنان حريات وديمقراطية، بل كانوا البادئين في الإصلاح السياسي الذي ظل منسيا، عربيا، عقودا من السنين حتى عاد اليوم يدق أبواب الأنظمة العربية كلها، وبالحاح، ان لمن الخطأ والظلم والمكابرة القاتلة ان يطلب من لبنان، اليوم، التنكر لما صنعه.والاقتداء بالنظام العربي الذي هو نفسه يحار كيف يصلح نفسه قبل فوات الأوان.

وكان لا بد من التذكير بأن لبنان كان في الأساس، ويجب أن يبقى مشروع دولة عربية عصرية تفتقر إليها المنطقة العربية، لا مشروع مقاومة مسلحة على حدود اسرائيل فقط هي لا بد منتهية مع تحرير الجولان ومزارع شبعا كما نعلن ونقول. فلا بد من بديل منها من النوع الذي يجسده لبنان في كينونيته والدولة العصرية التي يريد ان يكونها، وهو الخيار الاستراتيجي للبلدان العربية كلها لا للبنان وحده.

لا بد من اعادة النظر في الدور الذي أُسند الى لبنان في مواجهة اسرائيل والذي هو اقرب الى الوظيفة منه الى الدور، مع كل التقدير، طبعا، لما صنعته المقاومة الاسلامية وحققته من انجازات. ونرانا في غنى عن التذكير كيف كان اختيار هذه الوظيفة، وكيف كان تعيين لبنان لها قبل أي بلد عربي آخر، وأين كان ذلك وبموجب أي خيار او قرار استراتيجي.

فليكن الاستحقاق الرئاسي فرصة لتصحيح هذه المسيرة، وإشراك اللبنانيين فيه، لا مشروع انقلاب آخر على ما تبقى من دولة وديمقراطية وحريات.

* رئيس الجمهورية اللبنانية السابق