عمال ثقافة.. أم مثقفون..؟!

TT

لماذا لا يستطيع المثقف العربي كتابة الرأي الواضح، أو الدخول مباشرة في عرض القضايا، لقرائه كحقيقة عارية؟

الإجابة التقليدية، التي تعودناها من المثقفين، تتلخص في كلمة واحدة هي: الاستبداد.

إجابة جاهزة ومعلبة، تعفي المثقف من مواجهة مسؤوليته امام جمهرة القراء، وتلقي باللوم على الحاكم، وعلى نظام الحكم. وبذلك يكون قد كفى المثقفين شر القتال.

هذا التبرير غير مقنع بالنسبة لي، وربما مقزز في كثير من الحالات، لذلك سأدخل في الموضوع مباشرة، وأحمِّل المثقف سبعين في المائة من عدم وضوح الرأي والرؤية. ولن أقبل التنصل من المسؤولية كتبرير. وقد كتبت في مقال سابق، في موقع آخر، طارحا ثقافة التخلي عن المسؤولية، من خلال قراءة اللغة اليومية في العالم العربي، ففي كل لغات الدنيا يقول الفرد: «لقد تأخرت عن موعد القطار»، مثلا، اما نحن فنقول: «فاتني القطار»، وكأن القطار هو المسؤول. وكأن القطار اقلع قبل موعده. نستخدم نفس العبارة في الحديث عن الطائرة وعن غيرها من المواصلات العامة ذات المواعيد المنتظمة. نهرب من المسؤولية، ونلوم النوم، عندما نقول: «أخذتنا نومة»، فالنوم هو الذي أخذنا، نحن مسلوبو الارادة، لا سيطرة لنا على النوم، رغم اختراع آلات التنبيه وخلافه.

ومع ذلك، فحتى التحليل اللغوي لممارساتنا اليومية لا يكفي لتفسير عدم قدرة المثقف، تحديدا، على قول الحقيقة العارية في القضايا السياسية، والمحرمات منها، مثل قضية فلسطين، على وجه الخصوص، او في اي قضايا اخرى حساسة.

في هذا المقال سأطرح تفسيرا مختلفا غير قضية الاستبداد والدكتاتورية التي يتذرع بها البعض. تفسير يرتبط بقراءة لموقع المثقف في المنظومة السياسية والاجتماعية. وسأبدأ بتصنيف اولي لا جامع ولا مانع، ولكنه تصنيف بدائي للمثقفين، قد يفسر لنا مسألة عجز عدد كبير منهم عن قول الحقيقة العارية.

وسأطبق هذا التحليل على الحالة المصرية لسببين: الاول، هو ان مصر بلدي وتتحمل نقدي. والثاني، هو اهمية مصر، كمعمل للانتاج الثقافي ذي انعكاسات على العالم العربي كله. اذن فالمقال عن المثقف العربي عامة، ولكن باسقاط على الحالة المصرية نموذجا.

هناك ثلاثة اصناف للمثقفين في مصر، وهنا اتحدث، تحديدا عن ثورة 1952 وما بعدها، وتجربة جمال عبد الناصر الاشتراكية، وتجربتي السادات ومبارك اللذين يمثلان محاولة للابتعاد عن النموذج الاشتراكي، حيث أخذا مصر في اتجاه التحول الليبرالي الرأسمالي. وأشدد هنا على كلمة التحول، وليس على كلمتي الليبرالي والرأسمالي. ففي فترة التحول هذه، حدثت مسألة التنوع التي أدت الى انتاج الاصناف الثلاثة.

الصنف الاول من المثقفين، هو صنف مثقفي السلطة او الدولة، ولا ارى في ذلك عيبا، حتى لا يتهمني البعض بأنني أزايد على طبقة بعينها.

هذا النوع من المثقفين جاء نتيجة ارتباط المثقف بالدولة الناصرية، وبالحزب الاشتراكي الواحد، حيث كانت الدولة الناصرية، الى حد كبير، تعتمد على شخصية المثقف الموظف، ولا بد من وقفة حيال كلمة الموظف هذه، هنا الفاعل مستتر والهدف غير واضح: من وظفه؟ ووظفه للقيام بماذا؟ المهم هو ان الموظف لا يمكن ان يكون غير ذلك، شخص له وظيفة.

ووظيفة المثقف الناصري، كما كانت وظيفة مثقف الحزب الشيوعي الروسي، هي نقل المجتمع من ثقافة الاقطاع او البرجوازية الى ثقافة الطبقة العاملة. وفي ذلك اصبح المثقف ايضا عاملا ثقافيا، مثله مثل كل العمال في المجتمع ينتج شيئا ما، اذن تحولت طبقة المثقفين الى طبقة عاملة تقوم بدور واضح في البناء الاشتراكي الجديد، هذا الدور هو تجهيز عقلية المواطن لقبول القوانين الاشتراكية، وتجهيز ذهنيته للقبول بالتزاوج بين ثقافته المحلية والطروحات الاشتراكية، فظهرت لنا قائمة من الكتب، من اطرفها واكثرها اثارة للتندر والضحك كتب تحمل عناوين مثل الاسلام والاشتراكية، واشتراكية الاسلام، الى آخر قائمة الطروحات التوفيقية او التلفيقية، التي تعكس لنا شخصية المثقف الموظف.

أطلت علينا ايضا، عملية فرز البيروقراطية للكتاب وللفنانين، فرأينا دكتاتورية الفن كمرآة لدكتاتورية السياسة، كان هناك الفنان الاول والفنانة الاولى، ومنح الفنانون القابا عسكرية، فكان لدينا ام كلثوم (سيدة الغناء العربي) كمعادل موضوعي لناصر كزعيم للعرب، وكذلك عبد الحليم حافظ، واللواء محمد عبد الوهاب.

اما الكتاب، فكان هناك المقابل الموضوعي للفنان الاول في حالة هيكل، اما البقية فكانت لشخصية المدير العام في البيروقراطية.

رأينا سيطرة ادريس والحكيم وغيرهما كفريق في سن واحدة تقريبا، ولم يظهر الجيل الثاني الى الساحة إلا بوفاة الجيل الاول، ولدينا الآن كتاب «شباب» ممن عرفوا بجيل الستينات، خصوصا في الرواية، فجمال الغيطاني مثلا وصنع الله ابراهيم وآخرون، كلهم تجاوزوا الستين تقريبا، ومع ذلك يشار اليهم حتى اليوم ككتاب شباب. اذن في السياسة، كما في الثقافة، لا بد من موت الكبير حتى يظهر لنا الصغير، بغض النظر عن الموهبة.

الصنف الثاني من الكتاب والمثقفين كان مجموعة متعلمة تعليما جيدا، وربما كانوا افضل بكثير من هؤلاء الذين ارتبطوا بشكل مباشر بالاتحاد الاشتراكي، كما كان الحال بالنسبة للصنف الاول، مثل هؤلاء الكتاب، كانوا في منزلة ما بين المنزلتين، يحاولون ان يقدموا انفسهم ككتاب مستقلين. ولكن كانت عيونهم دائما على تحسين اوضاعهم الاجتماعية، للحصول على وظيفة أعلى كمدير او كرئيس جامعة او عميد كلية، وكل تلك الوظائف مرتبطة بانتمائهم للحزب. اذن، هم يتبنون، احيانا، الاستقلال لفترة، وربما في بعض الاحيان، يتبنون خطاب المعارضة للفت انظار من هم في الحكم، ثم تأتي لحظة الترقي، فنجدهم ينضمون للحزب.

هؤلاء، كما يراهم المثل العامي المصري، مثقفون لهم «عين في الجنة وعين في النار». بالطبع يقع داخل هذه الخانة، وكذلك الخانة السابقة، مثقفون مثاليون ممن يدخلون الاحزاب بناء على عقيدة واعتقاد، بأن ايدلوجية الحزب هي الحل بالنسبة لأزمات الأمة. ولكن يبقى في النهاية ان الصنف الثاني، «عين في الجنة وعين في النار»، يمثل شريحة عريضة موجودة ليس في مصر فقط وانما في جميع انحاء العالم العربي، لذلك هي لا تستطيع ان تقول رأيا واضحا في اي شيء.

اما الصنف الثالث، فهو مجموعة المثقفين الذين اعتقدوا ان دور المثقف هو معارضة الدولة والبيروقراطية. وكثير من هؤلاء المثقفين ارتبطوا، فيما بعد بحزب التجمع او بجماعة الاخوان المسلمين. وبالفعل عارضوا الدولة والبيروقراطية وامتلأت بهم السجون في فترتي ناصر والسادات.

اذن، المجموعة الاولى مثلت ما يمكن تسميته بالصفوة الثقافية ممن وصلوا الى المراكز العليا. وقد صرح اخيرا وزير الثقافة، وهو فنان، بارتباطه بالمخابرات، ضمن مهامه الرسمية، ايام كان يعمل ملحقا في باريس. اما الصنف الثاني، فهم جماعة المثقفين الذين حاولوا الحفاظ على هويتهم كمثقفين، فابتعد بعضهم عن الوظائف الحكومية، لكنهم كانوا قلة، اما الاغلبية فهم الذين وجدوا في مؤسسات شبه حكومية، كالصحف الرسمية، خصوصا مؤسسة الاهرام، التي احتضنت رموز هذا الصنف الثاني، مثل الحكيم وادريس. وحذت معظم المؤسسات الصحفية حذو الاهرام، بأن سمحت بمساحة «ما بين بين» من الاستقلال المشروط، او شبه الاستقلال في الرأي.

اما الصنف الثالث، فهم من فشلوا، او احيانا، رفضوا مسألة ايجاد موقع لهم في البيروقراطية وعارضوها. فبدلا من ان يحاولوا ايجاد مكان لهم يمنحهم شبه الاستقلال، كما في الصنف الثاني، وجدناهم يحاولون هدم النظام بأكمله من اجل ايجاد مكان لهم. ونقد هؤلاء في الغالب متطرف ومغال، وفرصه في النجاح تقريبا معدومة.

التجربة الناصرية تحديدا، ومن خلال تبنيها لمقولة المثقف في خدمة المشروع الناصري، خلقت مثقفين أشبه بالعمال. وهنا أعزي للتجربة الناصرية، تحويل المثقف المصري الى عامل ثقافة، وربما يفسر لنا هذا ان المثقفين الآن مثلهم مثل العمال، ايضا، هاجروا للخليج وبطريقة موازية. ويرجع الفضل في ذلك بالطبع ولسخرية القدر الى ناصر ونظامه، ولذلك مقال آخر.