ليس هناك من يقرأ رسائل الأسرى أو يفك حروفها

TT

حين قرّر الأسرى الفلسطينيون المقاومون للاحتلال الإضراب عن الطعام، لم يكن قرارهم نتيجة حبّ في تعذيب الذات، أو رغبة في الاستشهاد والتخلص من الثمن الذي يدفعه المقاوم المُختطـَف أو الأسير، كل يوم من حياته دفاعاً عن الكرامة والهوية، بل كان هذا القرار نتيجة مريرة للمعاناة من أساليب التعذيب التي يمارسها الجلادون الإسرائيليون، على كلّ من قال «لا للاحتلال»، ومحاولة مستميتة للفت أنظار العالم لما يتعرض له الأسرى من تعذيب وإذلال وإهانة وألم إنساني لم يعودوا قادرين على تحمله. كان القرار صرخة في وجه الإسرائيليين، ليذكرهم بإنسانية الأسرى وكرامتهم، وتوقهم إلى الحرية والاستقلال والحقوق التي ضمنتها لهم كل المواثيق والأعراف الدولية. لم تكن صور أبو غريب موجودة هنا لتصعق العالم بحجم الجرائم والانتهاكات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، الذين يضّمون بين صفوفهم ألفي طفل ومائة امرأة. وتمضي «إسرائيل» في انتهاكاتها الصارخة لأبسط حقوق الإنسان، بعنصرية واضحة ضد العرب، بلغت حدّ منع نقل الأسرى الذين تسوء حالتهم إلى المستشفيات، حيث أعلن وزير الصحة الإسرائيلي، بعنصرية سافرة، «لا، لن ينقل الأسرى الذين تسوء حالتهم إلى المستشفيات».

ويتساءل المرء وهو يتابع قضية المناضلين من أجل الحرية والاستقلال في فلسطين، ومن أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي العنصري البغيض عن ديارهم، أين هو العالم الحرّ والعالم «المتحضّر»، كما يسمونه هم؟ وأين هي منظمات حقوق الإنسان، التي لم تكلّف نفسها عناء الوصول إلى السجون للكشف على حالة هؤلاء المناضلين، ولفت أنظار العالم إلى الوحشية الإسرائيلية المفروضة عليهم وعلى أسرهم وشعبهم؟ وها هو حفيد غاندي أرون غاندي، ينضمّ إلى الأسرى الأبطال في مقاومتهم السلمية للاحتلال، احتجاجاً على الإرهاب الإسرائيلي. ولن يفيد أيّ عنصري إسرائيلي، بعد اليوم، أن يصف هؤلاء بالإرهابيين، فهؤلاء جميعاً مناضلون من أجل الحرية، ويتمتعون بأخلاق المقاوم التي هي أرفع الأخلاق غيرية ومحبة للوطن والآخر، ونكراناً للذات. وهذا الإضراب، على أهميته وعلى إهمال العالمين العربي والغربيّ له، يعيد إلى المقدّمة مسألة مقاومة الاحتلال وشرعية هذه المقاومة، وواجب كل ذي ضمير حرّ بدعم هذه المقاومة، إلى أن ينال الفلسطينيون حريتهم واستقلالهم، كما نالتها كل شعوب الأرض. ولكنّ هذه المقاومة ترافقت، كما ترافقت انتفاضة الأقصى، مع حملات تشويه إعلامية مركّزة، أعدّ لها العدة عنصريون محتلون مستوطنون، يستبيحون الأرض والماء والشجر والبشر، ويدبجون للعالم قصصاً كاذبة عن القتل والعنف والإرهاب الذي يتعرضون له، وهم جذوة الإرهاب والعنف في منطقة الشرق الأوسط برمته. في عودة بسيطة إلى العمليات الاستشهادية التي نفذت، في معظمها، من قبل أشخاص عانوا من فقدان أب أو أخ أو زوج، ودُّمرت منازلهم، ووصل الإذلال الذي يتعرضون له حداً لا يطاق، فقد اختاروا التضحية بأنفسهم، فقط كي يوقظوا العالم على حجم المعاناة التي يتعرضون لها، ولم يكن الهدف قتل المقابل، ولكنّ حقيقة الأمر هي أن العالم لا يبالي بكل ما يتعرض له العرب والفلسطينيون، ولا يتحرك إلا حين يتعرض الطرف الآخر للخسارة، لأن العنصرية ضد العرب بلغت أوجها، ولم يعد القتل والفقدان واليتم والثكل في صفوفهم، يثير المشاعر نفسها لدى الآخرين، نتيجة حملات التشويه. إن جوهر ما يجري في فلسطين هو إرهاب إسرائيلي منظم ضد شعب آمن يحلم بالحرية والعيش على أرضه بكرامة، حيث تدفع أساليب الاحتلال الإجرامية هذا الشعب لاختبار كل أساليب المقاومة للفت نظر العالم، إلى مدى الظلم والقهر والإذلال الذي يتعرض له، فهل من مجيب؟ ها هو الشعب الفلسطيني يختار الأساليب السلمية للمقاومة، فلماذا يُـترَك وحيداً؟ المشكلة إذاً ليست في الأسلوب الذي يحاول هذا الشعب التعبير من خلاله عن توقه للاستقلال والحرية، بل في احتلال عنصري استيطاني بغيض، رسم الخطط الإعلامية لطمس حقيقة الاحتلال والجرائم التي يرتكبها بحقّ شعب يقاوم من أجل الاستقلال والحرية.

كانت التغطية الإعلامية لنضال الأسرى على مدى الثلاثة عشر يوماً مخجلة في الإعلامين العربي والغربيّ على حد سواء. وبرهنت على أن النبل والأخلاق والموضوعية، أصبحت قيماً نادرة. وعلى أن ادّعاء القيم، إنما يتم فقط لتحقيق أهداف سياسية أو مالية. وأن الحقيقة غائبة عن الأبصار والبصيرة. ففي الأسبوع الذي بدأ فيه المقاومون الأسرى رفضهم الاحتلال والأسر، أعلنت «إسرائيل» مشروع تحويل القدس إلى ما يسمى مدينة إنترنت كبرى، علماً بأن هذا المشروع يهدف إلى طمس الهوية العربية لمدينة القدس، وتغيير طابعها التاريخي. كما أعلن شارون حصوله على موافقة أميركية لبناء ألف وحدة استيطانية جديدة، وظهر الموضوع تحت عناوين مخجلة، حيث نشرت «نيويورك تايمز» في 18 اغسطس (آب) الحالي، مقالاً بعنوان «شارون يعلن عن مناقصة لبناء وحدات سكنية جديدة للمستوطنين». وفي مقال آخر «شارون لإسرائيل الحديثة، شارون المحارب»، («هيرالد تريبيون» 16 اغسطس. وفي مقال آخر (21 اغسطس في «نيويورك تايمز») «الولايات المتحدة تدعم نموّ المستوطنات في الضفة الغربية». وهناك مقال آخر في «واشنطن بوست» عن المستوطنين الجدد في القدس، والذين يغريهم المال والدين في المدينة. بينما يجدد وزير الدفاع الإسرائيلي، شاؤول موفاز، تهديداته للبنان وسورية، ويقول إن عمليات قد تقع على الحدود. بينما لا يعتري الشك حقيقة أن الاستيطان والاستعمار الإسرائيليين يستبيحان المقدسات الإسلامية والعربية، وينتهكان أبسط حقوق الإنسان في العيش الحرّ الكريم انتهاكاً صارخاً. إن تلميع صورة الاستيطان وتدبيج العبارات لتصويره بأنه أمر طبيعي، في الوقت الذي يخوض فيه الأسرى الفلسطينيون معركة قاسية وغير متكافئة ضدّ ظلم الاحتلال وإجرامه، يعتبر إهانة لكل من يدعي أنه يؤمن بالحق والعدالة والحرية. وأقصى ما تمكن مسؤولون دوليون من قوله هو «التعبير عن القلق من توسع المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية»، من دون القلق على حياة الأسرى، ومن دون تهديد إسرائيل بالمقاطعة والقصف، كما يحدث لو تعلق الأمر بدولة أخرى ترتكب جزءاً يسيراً مما ترتكبه إسرائيل من جرائم.

ولم يشر الإعلام العربي إلى أهمية استثمار قرار اتخذته دول عدم الانحياز الخميس الماضي في دوربان ـ جنوب أفريقيا ـ لـ«محاصرة» إسرائيل و«مؤيديها»، حتى تذعن للمعايير الدولية في التعامل مع الأسرى. لقد برهن إضراب الأسرى للمرة العاشرة، على أن إسرائيل تمارس سياسة عنصرية عدوانية بحق الشعب الفلسطيني، وأنه حان الوقت لتشجيع الرأي العام العالمي على مقاطعة إسرائيل والمنتجات التي تنتج في المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. إن هذا القرار وقرارا مماثلا سبق الحديث عنه من قبل الاتحاد الأوروبي، قد يشكلان الخطوة الأولى التي على العرب ان يخطوها لتحريك العالم نحو كشف الجرائم التي ترتكبها إسرائيل يومياً بحق الأبرياء في فلسطين.

إن مقاومة الأسرى للاحتلال بالطرق السلمية يجب أن تعيد إلى المقدمة، مسألة إعادة النظر فيما يروجه العدوّ من تهم بالإرهاب والعنف، للتغطية على مخططاته الاستعمارية الاستيطانية، مع حملة إعلامية دولية لوضع الأمور في نصابها الصحيح، وكسب الرأي العام العالمي، في محاولة لفرض العزلة على إسرائيل التي فرضها العالم على جنوب أفريقيا العنصرية، إلى أن ينعم الطامحون إلى الحرية والاستقلال بالحرية والاستقلال في أرضهم وديارهم. إنّ الرسالة التي أرسلها الأسرى المقاومون، رسالة مهمة جداً في النضال السلمي، ولكن على العرب جميعاً، وخاصة الإعلاميين والمثقفين والمفكرين، أن يحملوا هذه الرسالة ويوصلوها إلى ضمائر شعوب العالم قاطبةً.