دارفور: سودان موحّد مستقبلي.. أم دُويلات طوائف..؟!

TT

ثمة أمل أن تكون أزمة السودان الراهنة المتمثّلة في مأساة دارفور، غرب البلاد، أزمته الأخيرة إذ تتابعت على هذا البلد العملاق الأزمات غير الضرورية، لجهة أنّّ أغلبها من النوع الذي كان ممكنا تفادي وقوعه من الأساس.

ومن حيث أنّ معرفة الطريق الصحيح هو نصف المشوار، فمن الضروري أن نتجاوز، بداية، ثلاثة مداخل خاطئة أو مجزوءة، ظل بعض المتعاطين مع أزمة السودان في دارفور، ينطلقون منها في تشريح الأزمة وتحليلها.

أمّا المدخل الخاطئ الأوّل، فهو تغييب العمق التاريخي للأزمة، إذ ينحو بعض المحللين إلى النظر إليها كواقعة نشأت أسبابها عند اندلاع التمرّد المسلّح الراهن، في نوفمبر من عام 2003، وبالتالي تحميل الحُكم الإنقاذي الراهن مسؤولية الأزمة. وهذا خطأ شائع مبين. فالنزاع المسلّح الراهن تمتد جذوره، تاريخيا، إلى نهايات الثمانين من القرن الماضي، متمدَدا عبر عهدين سياسيين هما التعددية الثالثة على عهد وزارة السيّد الصادق المهدي، والعهد الإنقاذي الراهن. ومن هُنا يجيء المدخل الخاطئ الثاني، إذ يظن بعض الإنقاذيين أنّ دعوى (التهميش) في دارفور تتهم الحكم الإنقاذي باعتباره المسبّب الأساس له. ولو أنّ تعقيدات سببها انقسام الإنقاذيين جعلت شقّا من الإنقاذيين السابقين يحمّلون الإنقاذيين الحاكمين كامل مسؤولية (تهميش) دارفور، ولو أنّ الحُكم الإنقاذي يتحمّل، بالفعل، شقّا من مسؤوليّة ما يجري على الأرض في دارفور، إلا أنّ هذه المقابلة ما بين المدّعي والمتّهم، كمحاكمة للإنقاذ وحدها، تفسد التحليل، وترتّب نتائج له غير سديدة. أمّا المدخل الخاطئ الثالث فيتمثّل في النظر إلى أزمة السودان الراهنة في دارفور، باعتبارها أزمة يقف من خلفها عامل رئيس واحد، إذ هي أزمة متعدّدة الأسباب، رئيسة وثانوية.

في ظل اقتصاد وطني بالغ التخلّف، وفقا للمؤشّرات الاقتصادية المُتعارف عليها دوليّا، فإنّ الأزمة في دارفور أزمة ذات ملمح اقتصادي مكين. ويتشابه الملمح الاقتصادي للأزمة في دارفور مع الملمح ذاته في أطراف أُخرى من البلاد، شرقيّها وجنوبيها وفي شمالها وفي أجزاء من وسط السودان. ولقد اصطلح دارسو الاقتصاد السياسي تسمية هذا المُشكل الاقتصادي بالتنمية غير المتوازنة. وهو المشكل ذاته الذي استخدم متمرّدو جنوب السودان وغرب السودان مصطلح (التهميش) في وصفه، وإن اتّسعت الظاهرة الموصوفة عند الأخيرين لتشمل أصنافا من الاستضعاف السياسي، جنبا إلى جنب الاستضعاف الاقتصادي في أطروحة دارسي الاقتصاد السياسي. وربّما لزم هُنا أن يُنظر إلى الاستضعاف الاقتصادي في الحالة السُودانية في سياقين; أوّلهما اجتماعي بحُكم أنّ الاستضعاف الاقتصادي يضرب شرائح اجتماعية سودانية عبر أقاليم السُودان المختلفة، في المركز وفي الأطراف معا. أمّا السياق الثاني فهو سياق المركز والأطراف. فالأطراف التي تمثّل حزاما دائريا حول المركز النيلي (يصفه بعض المحلّلين، بدون تحرّي الدقّة اللازمة، بأنّه مثلّث الخرطوم سنّار كوستي) ظلّت تشهد معدّلات تنمية اقتصادية لا تتناسب مع الحصص التنموية التي يتمتّع بها المركز. ولقد أدّى الاستضعاف الاقتصادي في السياق الأوّل (السياق الاجتماعي) بدرجة واضحة، إلى جانب أسباب سياسية بعينها وفقا للظرف السياسي المعني، إلى اندلاع انتفاضات المركز في أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وفي كثير من التوترات السياسية والاحتجاجات التي ظلت تشهدها الخرطوم في مختلف حقب الحُكم وإن لم تنته إلى تغيير الحكم السائد حينئذ جُملة واحدة. أمّا السياق الثاني للاستضعاف الاقتصادي (مركز أطراف) فلقد ظلّ سببا رئيسا آخر لعدم استقرار سياسي طويل، استغرق نحوا من 08% من حقبة الحكم الوطني في السودان التي ناهزت نصف قرن من الزمان الآن. فباسم (التهميش) تمرّد الجنوب مرتين، والتحق غرب السُودان بالتمرّد الآن، وثمة نُذر، نرجو لها أن تكذب، باندلاع عنف مسلّح جديد في الشرق، ويتحرّك الرحم النوبي في أقصى شمال السودان بجنين تمرّد نرجو له أن يكون حملا كاذبا.

والاقتصاد الدارفوري متخلّف، لا يكاد يستوعب حاجة المواطن الدارفوري للعمل، ولاستقبال حصّة أساس من خدمات التعليم والصحّة والغذاء والمياه الصالحة للشُرب والمأوى اللائق، دع عنك حاجيات أرفع للمعرفة والمعلومات والتنقّل على وسائل وبنيات تحتية عصرية... إلخ. ويضيق في دارفور سوق العمل المحلّي، وتصعب الحركة بحثا عن العمل في سوق العمل بالمركز، وتتضاءل فرص الهجرة بحثا عن العمل بعد أن تراجع إغراء سوق العمل الليبي، وتنكمش فرص التخديم الذاتي في الزراعة أو الرعي أو في قطاع خاص تجاري/ خدمي ضامر. ومن بين كتلة سكانية مقيمة بالإقليم تبلغ ستة ملايين ونصف المليون نسمة، فإنّ أعدادا كبيرة من الشباب والصبيان حديثي السن يطرقون أبواب سوق العمل في سنّ مبكرة، لعدم انتظامهم في تعليم نظامي في الأساس أو لخروجهم عنه كفاقد تربوي. وفي مقابل استقبال محبط لهؤلاء من سوق عمل ضيّق وشحيح الفرص، يندفع هؤلاء الشباب تحت ضغط الإحباط، إلى استخدام السلاح لكسب العيش وتلبية تطلعات شخصية واجتماعية مشروعة، فإنّ هذا الحال ذاته أسهم، في مجمله، في تفريخ حركات مسلّحة، على نحو ما هو كائن الآن.

بالطبع أسهم العامل البيئي السياسي (الجفاف في الصحراء الإفريقية وفي غرب إفريقيا إضافة إلى النزاعات السياسية المسلّحة في تشاد وإفريقيا الوسطى وما أفضت إليه من نزوح قبائل البدو إلى السُودان) إلى تدفّق السلاح إلى غرب السودان، واستفحال النزاعات التقليدية حول الأرض وموارد المياه، والتي ظلّت محدودة. لكن السلاح واسع الانتشار لم يفد إلى غرب السودان عبر حدود البلاد الغربية فحسب، بل وصلت حصّة كبيرة من السلاح إلى أيدي القبائل من خلال سياسات لتسليح القبائل، والقوى غير النظامية في عهدي التعددية الثالثة والحُكم الإنقاذي الراهن. ولقد أغرى امتلاك القبائل للسلاح وخبرتها في استخدامه، إلى توظيفه على نحو سيئ في إطار الصراع الحالي بين الجيش الوطني وحاملي السلاح من متمرّدي دارفور.

ولكن ثمة عاملا سياسيا رئيسا لا يمكن إغفاله ولا يمكن التوصّل إلى تسوية للأزمة الراهنة في دارفور، والأزمات المحتملة شرقا وشمالا، بتغييبه. وهذا العامل يتمثّل في عجز هياكل الحكم المركزية، على وجه التحديد، عن الاستجابة لتطلَعات نخب الأطراف، خاصّة في الجنوب والغرب والشرق، مشاركة في صُنع السياسات العامّة، واستيعابا في هياكل الحكم والتنفّذ السياسي. ولقد ظلّت نُخب الأطراف الضامرة كمّا في حقبة سابقة تكتفي باستيعاب بالوكالة

من خلال الأحزاب التقليدية، فيما لم تكفل لهم الأحزاب الإقليمية (جبال النوبة وجنوب السودان تحديدا) طريقا إلى مركز السلطة. ولا يمكن هنا أن يغفل التحليل الأثر الكبير على الثقافة السياسية السودانية الذي تركه خطاب الحركة الشعبية لتحرير السودان (متمرّدي الجنوب) حول السودان الجديد. وهو الخطاب الذي أضحى مؤثّرا، على نحو بالغ وخاص، على الثقافة السياسية لنخب الأطراف. وهو الخطاب ذاته الذي يمنح الآن دافعا إضافيا، فيما يبدو، لحاملي السلاح في غرب السُودان وجماعات البجا وعرب شرق السودان، ونُوبيي الشمال للمضي في خط الاحتجاج و العمل المسلّح.

وفيما يبقى الانقسام الأهلي الذي أحدثه النزاع المسلّح في دارفور أمرا مُثيرا للقلق، لجهة آثاره السلبية الراهنة والمستقبلية على مستقبل النسيج المجتمعي، استدعت أزمة السودان في دارفور عاملا دوليّا غير مسبوق من حيث كثافته وقوّة ضغطه. ويجب هُنا كذلك، ولمصلحة التحليل، أن نتوافق على أنّ العامل الدولي عامل لاحق، وليس عاملا مسببا للأزمة. ولقد استدعته، بالطبع سياسات غلّبت البعد الأمني/ العسكري على البعد السياسي، واستبعدت النظر الاستراتيجي للأزمة ومآلاتها، على مستقبل السودان لصالح تدابير ظرفية وتاكتيكية ضيّقة الأفق، أحالت الأزمة في دارفور إلى مهدّد رئيس للأمن القومي والأمن الإقليمي، وصيّرتها حصان طراودة امتطته الإرادة الأجنبية التي وضعت مستقبل الحُكم الإنقاذي كلّه على طاولة البحث، وصادرت الإرادة الوطنية، بالغفلة وسوء التقدير، لصالح طُغيان وسيادة الإرادة الأجنبية التي لم ولن تجيء إلينا بوجهها الإنساني فحسب، بل بحزمة أجندة ومصالح تخصّها كذلك. بعد أن كان مأمولا أن ننتقل إلى تحدّي مغالبة أوضاع ما بعد اتّفاق سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السُودان هو، على علاّته، خيار أفضل من استمرار الحرب، ها نحن قد عدنا إلى المربّع الأوّل من جديد. وما يجري في دارفور، من الناحية التحليلية أيضا، امتداد لنظرية المركز والأطراف ذاتها التي عبّرت عنها أوّلا حرب الجنوب. وهي النظرية ذاتها التي ستستوعب انفجار أيّ عمل مسلّح في الشرق، أو أيّ شكل من أشكال الاحتجاج السياسي أو الدبلوماسي في الشمال النُوبي. والمُشكل الرئيس الذي تستبقيه بين أيدينا هذه النظرية التي تمشي على الأرض، راهنا، هو أنّ فكرة السودان الموحّد، كيانا وهويّة ومشروعا، تتسلّل من بين أصابعنا، من حيث نشعر أو لا نشعر!!

كنت، مع آخرين، وما نزال نقول، بأهميّة وإلحاح النظر إلى قضيّة الاستضعاف السياسي والاقتصادي كقضية سياسية قوميّة، اعترافا بها وانطلاقا منها. وهذا هو ما يقودنا إلى ما أسميناه في وقت باكر (استكمال مشاكوس)، وذلك قبل أن تنتهي مشاكوس إلى نيفاشا. فلقد كانت من عيوب مشاكوس ونيفاشا، من بعد، المقابلة التي اعتمدتها بين المركز والجنوب، أو بين الشمال والجنوب، باعتبار الجنوب هو الحالة المثالية الوحيدة للاستضعاف السياسي والاقتصادي. الواقع أنّ في الشمال نفسه حالات من الاستضعاف السياسي والاقتصادي. وذلك هو ما فجّر دارفور، وما يمكن أن يفجّر الشرق، إن لم نستبق انفجاره.

وختاما، ليس من خيار إلا في سودان موحّد ومستقبلي. فعهد دويلات الطوائف هو عهدٌ مع التخلّف والنزاعات الأهلية التي لن تفعل شيئا سوى استنزاف مواردنا البشرية والطبيعية التي يحتاجها مشروع مكافحة التخلّف وبناء السودان البديل. فالعالم يتطوّر باتّجاه الكيانات القاريّة بدلا عن الكيانات القطرية. وإذا كان السُودان، البلد القارّة، هو قاعدة جيّدة لبناء نموذج لصين أو هند أو ماليزيا إفريقية، فالحقُّ هو أن نجنّبه تفكيكا إلى دويلات طوائف وصوملة أُخرى بائسة. تلك قسمة ضيزي، وخَرَقٌ لا محض غفلة. أمّا السودان الموحّد المستقبلي، فاستحقاق لا بدّ أن تُسدّد فواتيره. وهذا ما لا، ولن، يتم إلا بأن تسود سياسات الحكم، تحديدا، نظر استراتيجي، وأن يتحمّل الحكم مسؤولية ما يترتّب على ذلك من التزامات.

* صحافي سوداني وأستاذ جامعي