وردة ذبلت لتبذر (1)

TT

من أغاني بوب دلن السياسية الخالدة اغنية «أين ذهبت كل تلك الأوراد؟» كأنني به وقد غناها عن نفسه. فهذا النجم الغنائي سرعان ما توارى الآن. لم يعد الجيل الجديد يسمع حتى باسمه. قرأت في الاسبوع الماضي في النيوستيتسمان مقالة لنك كوهن «أين ذهب أطفال اليسار؟» ينعى بها زوال قادة الاشتراكية والفكر اليساري. اعتقد ان فشل الاشتراكية وانهيار الكتلة السوفيتية من أكبر النكبات التي حلت بالبشرية في العصر الحديث. سيبدو هذا الكلام غريبا لدى معظم الناس. ولكنني اعرف ابعاد ما اقوله هنا في اشارتي الى هذه النكبة.

يعاني المجتمع الغربي الآن من مشاكل الادمان على الخمر والمخدرات والامراض النفسية والانفلات الاخلاقي الذي ادى الى انهيار العائلة والهوس بالجنس وانتشار الامراض التناسلية من الايدز الى السفلس رغم كل التقدم الطبي وحملات التوعية. راحت هذه المظاهر تتسلل الى العالم الثالث بحيث اصبح الايدز من اخطر مشاكل افريقيا. انعكس هذا الانحدار في السياسة العالمية، فقلما توالى على حكم الدول وقيادة العالم ساسة بهذه الدرجة من التفاهة والذاتية. وبالنسبة لنا، اصبحت اسرائيل كالكلب المسعور المنفلت من قيده. وظهر الارهاب كرد فعل وجزء من هذا العالم المنفلت. العنصر الايجابي الوحيد الذي يشيرون اليه هو ازدياد الثروة. ولكن تراكم الثروة بذاته هو الذي ادى الى هذه السلبيات واصبح يهدد الكرة الارضية بكارثة التلوث وظاهرة الارهاب.

انني أعزو الكثير من هذه السلبيات الى انهيار الاشتراكية. فمن معتقداتي الخاصة ان هناك غريزة يولد بها الانسان وغابت عن ملاحظة العلماء. هذه الغريزة التي تميز الانسان عن الحيوان وتقربه الى الذات الالهية هي غريزة الامل بالارتقاء، اي الوصول الى ما هو احسن. تجلى ذلك منذ اقام الانسان مجتمعه البدائي ثم اصدر العراقيون شريعة حمورابي وجاء الانبياء والرسل والفلاسفة وبشروا بإقامة صرح المجتمع العادل على الارض والسعادة الكاملة في السماء. اليهود والمسيحيون آمنوا بالمسيح المخلص والشيعة بالمهدي المنتظر. وراء كل ذلك، هذا الامل في قلب الانسان لنيل الحياة الكريمة السعيدة العادلة.

تلاشت هذه التسبيحات الدينية في العصر الحديث الذي حلت فيه العلوم محل الروحيات ونسفت تلك الآمال في قلوب الكثيرين تاركة وراءها فراغا كبيرا. انطلق الاشتراكيون لملء هذا الفراغ بالتبشير لجنة على هذه الارض وفي يومنا هذا، «من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته»، الأمل الذي حلمت به الانسانية عبر القرون، ولم يترك الاشتراكيون هذا الامل سابحا في عالم الاحلام والتمنيات، وانما جاؤوا بالقواعد العلمية لوضعه موضع التطبيق العلمي، وفي طليعتها تأميم مصادر الثروة ووسائط النقل والانتاج. امتد التخطيط العلمي فغشي سائر الميادين. المهندسون خططوا مدينة برشلونة وفق المبادئ الاشتراكية. الفنانون وضعوا اسس المدرسة الانشائية والبنيوية. الادباء تبنوا الواقعية. المؤرخون أعادوا تفسير التاريخ. انفجرت الثورة الحمراء في روسيا ثم الصين وفيتنام ومناطق أخرى. وفي الغرب اكتسحت الاحزاب العمالية الانتخابات. ودمدم خروشجوف «سندفنكم!».

أقام الفكر الاشتراكي عرشه في رؤوس المفكرين والمثقفين وأخذ يطبع حتى حياتهم الخاصة بطابعه مما سأتناوله غداً.