هل لإسرائيل علاقة بما يجري في المنطقة؟ ـ تغلغل إسرائيل في العراق كشفه «هيرش»

TT

سربت أوساط عراقية، لا علاقة لها بنظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، نص رسالة بعث بها أمين عام الحزب الشيوعي العراقي حميد مجيد موسى، إلى وزارة الهجرة العراقية في حكومة علاوي المؤقتة، يطلب فيها السماح ليهود عراقيين بالعودة إلى.. « بلادهم»! ويقول إنهم من الأعضاء القدامى في حزبه، وقد رحلوا إلى خارج العراق في ظروف قاهرة. ويرفق المسؤول الشيوعي العراقي، الذي شارك في مجلس الحكم المنتهية صلاحيته، ويشارك الآن عبر من يمثله في حكومة علاوي الحالية، مع رسالته قوائم بأسماء اليهود ومواليدهم، والأماكن التي كانوا مسجلين فيها.

والطريف المؤلم أن بعض الأسماء، كما في النص، من مواليد القرن التاسع عشر!! الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن في القائمة «الشيوعية» أمواتا، وأن الهدف الأساسي لهذا الطلب ليس عودة «الرفاق اليهود إلى الأراضي الموعودة بالدم دائماً»، بل تثبيت «حقهم» في العراق الذي تنهب ثرواته في حلكة هذا الليل الأميركي الطويل.

ويتوقف مراقبون باهتمام أمام المعاني التي تنطق بها الرسالة الشيوعية العراقية هذه، لجهة الدور الذي بدأ يلعبه بعض الشيوعيين العراقيين، والذين تحولوا من النضال ومفرداته التي تضج بياناتهم السابقة بالدعوة إليه، إلى «كومبارس صغير» يشارك بحكم الاحتلال بحقيبة وزارية ملغومة، قد تنفجر في أية لحظة. ويبدو أن حميد مجيد موسى ورفاقه في المكتب السياسي، رأوا أن الشيوعية وقد بطل مفعولها في بلد المنشأ، تصلح للاستثمار في الحالة العراقية، من خلال طمأنة المحتل الأميركي بالنوايا الحسنة الجديدة. ودغدغة مشاعر سدنة منظريه بالعمل الإنساني الفريد لعودة اليهود إلى العراق!

ويقول المراقبون إن الرسالة هي فصل صغير من عمل أكبر عنوانه التغلغل الإسرائيلي في العراق أمنياً واقتصادياً وسياسياً. ويتكئ هؤلاء في قراءاتهم هذه على تقارير متفق على صدقيتها، منها التقرير الرصين الذي نشره الصحافي الأميركي المعروف سيمور هيرش في مجلة «النيويوركر». والتقرير الموسع الذي نشر في صحيفة «الغارديان» البريطانية، وكشف النقاب عن شركات إسرائيلية تعمل في العراق، والتقرير الموسع الذي نشرته صحيفة «معاريف» الإسرائيلية في ملحقها أواخر آذار الماضي، واحتل مساحة أربع صفحات ليبرز أسماء نحو 100 شركة صناعية إسرائيلية تقوم بتزويد مستوردين في العراق بمنتجاتها المفصلة، من حيث نوعيتها وأسماء بعض المسؤولين عن هذه الشركات، وبينهم جنرالات متقاعدون أبرزهم رئيس الأركان الأسبق امنون شاحاك.

وبحسب المعلومات التي تتداولها أجهزة رسمية عربية، فإن الشركات الإسرائيلية تصدر بضائعها إلى العراق، إعادة تغليف منتجاتها وتزوير مصدر البضائع ونسبه إلى دول أخرى.

وبالتوازي مع هذه النشاطات التجارية، يتحرك جهاز الموساد الإسرائيلي على أكثر من جبهة، مستفيداً من الإمكانات الهائلة التي توفرها له القوات الأميركية، وتقول روايات يتداولها باحثون ومراقبون للتطورات العراقية، بأن جهاز الموساد ركب محطات تقنية متطورة في أكثر منطقة في العراق، ومن بينها محطة في منطقة «حاجي عمران»، وهي منطقة جبال شاهقة قرب الحدود. وتوفر هذه المحطة استكشاف ومتابعة ورصد الحركة في جزء كبير من الأراضي الإيرانية.

وبالرغم من صعوبة التحقق من هكذا رواية، إلا أن مصادر في الجبهة التركمانية العراقية المناوئة للأحزاب الكردية، تتهم هذه الأحزاب بالتواطؤ مع الإسرائيليين، وتشير إلى التسهيلات التي يقدمها بعض المسؤولين الأكراد لعناصر من الموساد الإسرائيلي. وفي هذا الإطار تقول المصادر التركمانية، إن الموساد أقام عدة مكاتب سرية في كردستان العراق ومدنها الكبرى، مثل دهوك والسليمانية وأربيل وبعض القرى القريبة من الحدود السورية - العراقية والحدود الإيرانية ـ العراقية.

وينفي المسؤولون الأكراد هذه الروايات ويعتبرون المناطق التي يسيطرون عليها نظيفة من الوجود الإسرائيلي. لكن مثل هذا الأمر لا يمكن أخذه على محمل الجد. لأن المناطق الكردية كانت في الفترة الممتدة ما بين نهاية حرب الخليج الثانية عام 1991، وبدء الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، خارج سيطرة الحكومة المركزية في بغداد، وعرفت آنذاك بالملاذ الآمن. وخلال هذه الفترة نشطت في هذه المناطق عشرات المنظمات الدولية والأهلية، التي جاءت تحت مسمى العمل الإنساني. ومعروف أن بعض أعضاء هذه المنظمات لديه وظائف أخرى غير العمل الإنساني، ولا شك بأن هذه الفترة أسست لنشاط استخباراتي غير مسبوق.

ومع الانتباه إلى أن الحديث عن المناطق الكردية هنا لا يحمل أية إيحاءات عنصرية أو تمييزية تنطلق من معادلة الكراهية المتبادلة بين العرب والكرد هذه الأيام، إلا أن واقع الحال يشير إلى تورط بعض المسؤولين الأكراد في غض الطرف عن النشاط الإسرائيلي في المناطق التي يسيطرون عليها. والأمر ذاته في مناطق عراقية أخرى يسيطر عليها مسؤولون عرب لبوا الحاجة الأميركية الطارئة لإدارة الفوضى والخراب العراقي.

هذه حقائق يستطيع المرء تلمسها إذا أراد، ويستطيع تجاهلها أيضاً، لأن الزوار والتجار الإسرائيليين يحملون في جيوبهم أكثر من جواز سفر، ويعرضون خدماتهم «النزيهة» على عباد الله الذين فقدوا إحساسهم بالزمان والمكان والجهات الأربع من جراء الموت والفزع والفوضى الآتية على ظهر الديمقراطية الأميركية، وقد ذاقوا طعمها في سجن أبو غريب، وفحصوا فوائدها في الحفر التي تحدثها القذائف في البيوت والنفوس ورأوا لونها الأحمر القاني، وشموا رائحتها التي تسربت إلى أنوفهم رغم الأقنعة الواقية من روائح الجثث.

ولكن لا بد من سؤال: هل يمكن النظر إلى هذه التداعيات بمعزل عن البرنامج الذي رسمته إسرائيل لنفسها في المنطقة حتى قبل مرحلة سقوط نظام بغداد...؟ (لا أريد أن أقول سقوط بغداد.. لأن مدينة مثل بغداد لا تسقط أبداً).

على بداهته، يبدو السؤال ضرورياً، خصوصاً إذا نظرنا إليه من شرفة ما كتبه شيمون بيريز عن الشرق أوسطية، على ضفاف الفترة الزمنية التي شهدت ولادة اتفاقي أوسلو ووادي عربة. ويمكن تلخيص هذا البرنامج بالهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية على دول المنطقة، وتحويلها إلى زواريب استهلاكية محدودة التأثير. من هنا يمكن فهم التحول الإسرائيلي النهائي عن عملية السلام في الشرق الأوسط، بعد دفنها في رمال الحروب العراقية التي لم تنته فصولها بعد، حيث أن إسرائيل أنجزت تحت عباءة الولايات المتحدة «الثائرة» على «الإرهاب العربي والإسلامي» أكثر مما كانت تطلبه في اتفاقات ومعاهدات بعضها يشبه عقود الإذعان. وهنا يتوقع مراقبون أن تبدأ «الماكينات الدعائية العملاقة» بتعبيد الطرق أمام مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق. وهذا أحد أحلام إسرائيل.

لقد قيل الكثير قبل الاجتياح الأميركي للعراق عن الدوافع والمصالح الإسرائيلية التي تضغط باتجاه شن الحرب على العراق واحتلاله. وها هي الوقائع تؤكد هذه الدوافع، وتكشفها. ومع الإشارة إلى حجم الخسائر البشرية التي يتكبدها الجيش الأميركي يومياً في العراق يصح القول مجازاً: «الإسرائيليون يأكلون الحصرم... والأميركيون يضرسون... والعرب يموتون».

لقد تحولت رحلة الجيش الأميركي إلى العراق للبحث عن أسلحة الدمار الشامل واستئصال «الإرهاب» إلى ورطة جدية. وسيمر وقت طويل قبل أن يتنبه الأميركيون إلى أن البحث الحقيقي يجب أن يكون عن أسلحة الخداع الشامل!

وإلى أن يمر هذا الوقت.. لن يبقى العراق موحداً ولن تكون دروبه آمنة وسيجتهد مسؤولون ومثقفون عرب في تسخيف هذه المخاطر وإخضاعها الفلكلوري إلى نظرية المؤامرة، وتكرار الطلب بالعودة إلى الواقعية السياسية وعدم السقوط في اللغة الخشبية والتهويل!

* كاتب واعلامي سوري