حتى لا نقسم العالم إلى: نحن.. وهم

TT

تعلمت عبر عشرين عاما في دراسة وتعليم الفلسفة، كيف اتعامل مع الاشكالية القائمة في تعريف ومعرفة (الحقيقة). فسقراط ذهب الى أن الفكرة (الواضحة) والقاطعة (حقيقة)، فيما أضاف اليها الفيلسوف كانط، حاجتها الى (الثبات). والى ذلك وعلى مدار السنين تعلمت كذلك أن (الحقيقة) وفي عالم عصر الاتصالات والإعلام، لم تعد تنبني أولا على (الوضوح) فقط، وإنما أيضا على (التواتر).

والى ذلك أعادتني أحداث الأسبوع الماضي الى مثل تلك الرؤية، أو قل الدرس، وذلك حينما ألغت السلطات الأميركية ومن دون توضيح وفي اللحظات الأخيرة، تأشيرة دخول لي الى أراضيها، كانت قد منحت لي

للتدريس في جامعة (نوتردام )، لتسبب بذلك حزنا قائما لي ولأسرتي، فظللت في سويسرا على أمل تصحيح الخطأ والتوافق معي في شأن منهجي مع (الحقيقة) ومعها (من أنا)؟. وقد جاءت منظومة الاتهامات بأني (شخصية خلافية) وأنني متورط في (حديث مزدوج، بتوزيع رسالة متزنة ووقورة باللغة الانجليزية والفرنسية، في مقابل رسالة أخرى باللغة العربية بصورة خاصة خاطبت العرب والمسلمين، ترتقي لحد وصفها (بالتطرف) وأن لدي

(روابط مع المتطرفين) وأنني (معاد للسامية)، وأنني (أحتقر المرأة).

وحينما سألت عن مصادر هذه المعلومات جاءني الرد: (أن هذا معروف جدا عنك، وعليك بمراجعة الإنترنت وستجد آلاف الصفحات تشير الى ذلك ).

ولكن فحصا دقيقا لتلك المزاعم، كشف عن مداولات لآراء وتحذيرات بين مجموعة من الصحافيين والمثقفين حول ما قاله آخرون بالأمس، أكثر من كون مادة تلك المداولات ذات صلة أو انعكاسا لمواقف. ولكن رد الفعل الموضوعي هنا هو (حسنا، من الممكن أن يكون في ذلك بعض الحقيقة، ولكنها حقيقة غريبة بالفعل).

من جانبي، وفي ردي على تلك المزاعم قلت لأميركي معني: انني قد ألفت 200 كتاب، وكتبت 700 مقال، ولدي 170 شريط فيديو لمحاضراتي يتم تداولها، فهل قرأت أو استمعت الى أي من ذلك؟ وهل تستطيع برهنة الروابط مع الارهابيين؟ فإعادة تكرار المزاعم ليس برهنة. وأين هو الدليل على حديثي المزدوج؟ وهل قرأت المقال الذي ناشدت فيه الأخوة المسلمين أن يجاهروا بإدانة الأفكار المتطرفة وأعمال الأرهاب؟

ومن هنا فرد فعلي يكمن في مثل هذه التساؤلات: هل يكون الحكم على أحد بأقوال وأفعال آخر؟ وهل تنتقل أفكار إنسان جينيا الى الآخرين؟ وهل تنحدر أفكار وأخلاق انسان بالوراثة من نسبه؟

والى ذلك فمثل ذلك القرار المعتمد على نسبي مضطرب وسلبي وإقصائي. وعلى الذين يركزون على نسبي أن يتفحصوا نخبوية شجرة نسبي، إذن لوجدوها من جدي الى أبي تحتضن سقراط وكانط وآخرين. ومن هنا فعليهم أن يتفحصوا مساهماتي الأكاديمية، والسنوات التي قضيتها مسافرا وعاملا على الطبيعة مع دوم هيلدر كامارا والدالاي لاما والأم تريزا وأبوت بيريي، والعدد الذي لا يحصى من الآسيويين والأفارقة والأوروبيين والأميركيين والمسيحيين واليهود، وكل ذلك في مسار تجربة علمتني وأنعشت روحي وشكلت عقلي ورسخت قناعاتي، وليس ميراثي الجيني، لأن مسار تلك التجربة هو ميراث حياتي.

والى ذلك، وعلى طول مسار تجاربي تيقنت من أن هناك ما هو غائب في تعريفات كانط وسقراط عن (الحقيقة)، (فالوضوح والثبات) ليسا كافيين. لأن البحث عن (الحقيقة) يتطلب (تواضعا عميقا) و (جهدا لا يقبل المساومة). وقد علمتني تجربتي مع العيش والتعايش مع البشر من مختلف الديانات والثقافات أن المرء لن يكون في سلام مع الآخر على الاطلاق، إذا ما كان في حرب مع نفسه.

ومن هنا (فالحقيقة) هي جوهر رسالتي للمسلمين عبر العالم: اعرفوا من أنتم، وماذا تريدون أن تكونوا، وابدأوا التحدث والعمل مع الآخر، واوجدوا قيما مشتركة، وابنوا مع رفاقكم من المواطنين مجتمعا مؤسسا على التنوع والمساواة.

وأخيرا، وفي هذا السياق، فلقد كان من شأن تحركي الى أميركا للتدريس في جامعة نوتردام أن تعمق وترقي مشاركة مثل تلك الرسالة مع المجتمعات الاسلامية هناك، وما هو أكثر من ذلك، فهل هذه مشاركة تحمل التهديد؟ أوليست رسالة عاجلة مصحوبة بالحاجة اليها في عالم ما بعد 11 سبتمبر؟

اما على صعيد آخر يعن لي أن أنتقل للحديث عن أحداث العراق وما تشهده ساحاته من أعمال إرهابية. فمن اللافت للنظر، بل والجدير بالتوقف معه، هذا الانتقال النوعي الذي يصاحب عمليات الإرهاب في العراق، وربما لاحقا أمكنة أخرى. ويوحي بمثل ذلك الانتقال كون أن كل قضايا اختطاف الرهائن في العراق، من قبل جماعات اسلامية، كانت في السابق مرتبطة على نحو ما بالسياسة الأميركية هناك، فيما جاءت قضية اختطاف الصحافيين الفرنسيين، مع نهايات الأسبوع الماضي، من قبل جماعة أطلقت على نفسها (الجيش الاسلامي)، موجهة ضد فرنسا، البلد الذي عارض الحرب على العراق. ولا يخلو هذا الانتقال من وجهة نظر جديدة، انتقلت بأفق القضية الى فضاء آخر، بعد أن ربطت المجموعة المسماة جيش المهدي، بين اختطاف الصحافيين الفرنسيين، ومنع فرنسا ارتداء الحجاب في مؤسساتها التعليمية بقرار من البرلمان الفرنسي.

والى ذلك يقترب ذلك السلوك، من قبل هذه الجماعة الاسلامية، من احداث نقلة جديدة في مناهضة السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، وذلك بنقلها الى مناهضة جديدة ومتطرفة للعلمانية. وطبيعي هنا أن نجد أصواتا في الغرب، تربط بين هذه النقلة الجديدة، والشجب السابق لشخصية مثل أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، لمنع الحجاب في فرنسا، في غضون إجازته من البرلمان الفرنسي مطلع هذا العام، وقول الظواهري إن فرنسا تدافع عن التفسخ والانحطاط، وتنضم الى الحقد الصليبي على الإسلام.

والى ذلك فمصدر خوفي ينطلق من هذا الارتباط بين أناس، من أمثال أيمن الظواهري، بوجوده كناشط على المستوى العالمي، وجماعة من شاكلة الجيش الاسلامي في العراق الذي أقدم على اختطاف الصحافيين الفرنسيين، كنشاط على المستوى المحلي. وهو ارتباط ينطلق من خطابة مناهضة للغرب فيما يستصحب ممارسات إرهابية لتصعيد، أو قل توسيع الشرخ بين الاسلام والغرب.

فهما، وباستخدامهما مسألة منع الحجاب في فرنسا، إنما يستغلان ويوظفان جدلية ذات جاذبية لدى المسلمين حول العالم، ممن يشعرون بأنهم مقهورون من الغرب، وبصفة خاصة، من مثل ذلك القانون الفرنسي، الذي لا يخلو من نظر اليه بصورة واسعة كفعل مناهض للإسلام.

والواضح هنا أن الظواهري وجيش المهدي، يريدان استقطاب المسلمين لجهة رفع مثل هذا الاستئناف العاطفي كقضية وبهدف واضح، وهو إقحام زخمه في خطابهما السياسي بملمحه القائم على الثنائية، وأعني القائم على فرضية أن العالم منقسم بين (نحن.. وهم).

ولا أخفي أن مخاوفي تتواصل، لأن مثل هذا المسعى يلاقي النجاح في بعض الأحيان. ولنا أن نسجل هنا أن فرنسا، وبرغم وقوفها مع العرب ورفضها الحرب على العراق منذ غزوه، الا أنها سبق أن أدينت، وتم اعتبارها دولة مناهضة للإسلام منذ عدة شهور، في غضون مناقشاتها ومساجلاتها حول منع الحجاب.

وأشير هنا الى أن هناك وجودا لحالة من القبول المتنامي لمفهوم قائم على وجود لـ(نحن.. في مقابل.. هم) في عالم اليوم، أو قل وجودا لمناخ، أو قل وجودا لشيء ما في الأفق أو الهواء، يحمل ملمح مثل ذلك الافتراض. ومن هنا، لنا أن نسجل، أن مثل هذا الوجود لمثل هذا التوجه كارثي في حد ذاته، وبكل المقاييس. أما على صعيد الكيفية التي يتوجب على فرنسا والحكومات الغربية أن تتعامل بها مع هذه الاختطافات وهذه الأفعال والكيفية التي يتوجب على المسلمين في فرنسا وباقي الدول الغربية أن يتجاوبوا بها، فموقفي هنا صريح، وهو أن لا يحدث استسلام لمثل هذا النوع من الابتزاز. ومن هنا، وعلى صعيد المسلمين في الغرب، فالتجاوب منهم وجب له أن لا يتوقف فقط عند حدود الرفض العاجل أو الآني لعمليات الاختطاف وقتل الرهائن، وإنما وفي المقابل، الرفض لرؤية الثنائية للعالم، وأعني رؤيته في ذلك السياق الثنائي بين (نحن.. وهم).

ومن هنا أقول إن على المسلمين في الغرب أن يكونوا صريحين في مواقفهم، إذا ما كانوا ينشدون فهما وتفهما لهم، سواء من قبل مجتمعهم الذي يعيشون فيه أو من قبل إخوتهم المسلمين. ولا أخفي هنا أن موقفهم هذا لا يخلو من حرج. وتكفي هنا إشارة لبعض المقاربات، فلإن تكون مسلما أميركيا (مثلا)، وتكون ناقدا للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، فالمعاملة التي تتلقاها تكون كما لو أنك لست مخلصا لوطنك. وفي واقع الأمر الشواهد تقتضي الإشارة الى أن على أميركا وأوروبا أن تستفيدا من مزية وجود المسلمين في داخل مجتمعهما، لتتعلما منه الكيفية التي يمكن أن تتعاملا بها مع كل العالم الإسلامي بصورة واسعة. ولكن وفي مقابل تلك الفرضية، يكون على المسلمين في الغرب أن ينشروا رسالة تقول: (نحن نعيش في ديمقراطية، واننا نحترم قانون الدولة، ونحن نحترم الحوار السياسي المفتوح، ونحن نريد مثل هذا الواقع لكل المسلمين). وفي المقابل أيضا، أسجل أننا لا نخون مبادئنا الاسلامية بالتقبل والتعايش مع المجتمع المفتوح، ولكننا نتقبل العلمانية لأنها مكنتنا جميعا من أن نعيش معا. إنها حالة من الحرية الدينية، لنا وللآخرين.

* مفكر اسلامي مقيم في فرنسا

* والمقال مأخوذ من تعليق له ومقابلة اجراها معه رئيس تحرير «غلوبال فيوبوينت» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»