محاربة التطرف بالقطيعة مع ثقافة الكراهية والموت

TT

ما الذي دهانا حتى أصبح جزء من شبابنا يحترف الخطف والاغتيال والعمليات الانتحارية أداة مقاومة، وطريقة لممارسة السياسة، ووسيلة تعبير؟

أطرح السؤال، وفي الذهن ما شهدته الساحة العراقية أخيرًا من اختطاف للصحافيين الأوروبيين والعمال الأتراك والآسيويين، فضلا عن تقتيل السكان العزل، مما لا يمكن بأي مقياس اعتباره مقاومة مشروعة للاحتلال، ولا ردة فعل مقبولة ضد مواقف بعض الدول من القضايا العربية، أو حضورها العسكري إلى جانب الولايات المتحدة في العراق.

وإذا كان الرأي العام العربي قد وقف وقفة شريفة رائعة مع الصحافيين الفرنسيين اللذين اختطفتهما إحدى المجموعات الإرهابية المتطرفة، إلا أنه من المؤسف أن صوته ظل خافتًا خلال مناسبات سابقة مماثلة، آخرها الإعدام الوحشي للصحافي الإيطالي أنزو بالدوني.

ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن المجموعات المتطرفة هامشية ومعزولة في الساحة العربية، ولا تشكل قوة سياسية أو اجتماعية، بيد أنه لا بد من الإقرار أن مشاعر الإحباط واليأس المتولدة عن الإحساس بالظلم وازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا العربية، قد تولد نمطًا من التعاطف الضمني، لدى الكثيرين مع هذه الأعمال العدوانية الممجوجة، التي تؤدي في الواقع إلى مزيد من الإضرار بصورة العرب والمسلمين وبقضاياهم العادلة.

فبعيدًا عن الخلاف حول العمليات الفدائية التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين، إلا أن الحس السياسي السليم، يبين بوضوح، أنها أضرت بالمقاومة الفلسطينية، وأفقدت الانتفاضة المجيدة ضد الاحتلال جانبًا وافرًا من زخمها الأخلاقي والقيمي في الوعي الغربي، مقلصة إلى حد بعيد حجم التعاطف العالمي الواسع مع الشعب الفلسطيني، في مواجهة حرب الإبادة التي تستهدفه، في مقابل المكاسب النوعية التي حققتها الانتفاضة الأولى، والنتائج الباهرة التي أفضت إليها المقاومة اللبنانية التي تركزت على الجيش الإسرائيلي وقتل الاستيطان.

وكذا الشأن في العراق، فعندما كانت وسائل الإعلام الغربية تنقل للعالم مشاهد جرائم سجن أبو غريب الفظيعة، التي بدأت تحرج جديًا حكمي الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وتقضي على ما بقي من تأييد يسير للحرب الأميركية في العراق داخل الشارع الأوروبي، جاءت بسرعة صور الانتقام المروعة، في صيغة المدني الأميركي نيك بيرغ، الذي ذبحه الزرقاوي بيده، لتخلف نقمة عارمة في الشارع الأميركي كان المستفيد الأول منها هو الرئيس بوش الذي بنى مشروعه الانتخابي على محاربة الإرهاب.

تضاف إلى هذه الفظائع المنفلتة من كل قيود، والعصية على الفهم، جرائم الإرهاب التي استهدفت الاجانب والسعوديين في المملكة العربية السعودية، وتفجيرات مدريد أو غيرها من الأعمال العدوانية التي ارتبطت كل مرة بمجموعات متشددة تنتسب للإسلام وتزعم الدفاع والذود عنه.

فلماذا يقدم بعض شبابنا، وأغلبهم من المتعلمين، وذوي التكوين التربوي الحديث، والملمين بالتقنيات الجديدة الراهنة، على استخدام أجسادهم وتقديم أرواحهم في معارك خاسرة، لا تتوفر لها المشروعية الأخلاقية ولا الدينية، فيما تجر على أمتهم الخسران والهوان؟ قد تكون الإجابة السهلة هي تفسير الظاهرة بعوامل اجتماعية سياسية، كثيرًا ما نسمعها من قبيل الإحباط المولد للتطرف، والشعور بالظلم المفضي للعدوانية، والتهميش المؤدي للثورة العمياء. بيد أن هذه العوامل لا تفسر خصوصية الظاهرة من حيث مرجعيتها الدينية الزائفة.

ولا مناص من الإقرار بحقيقة وجود ثقافة للكراهية والعنف والتدمير واحتقار الحياة، لها غطاؤها المعرفي وهياكلها المؤسسية وأطرها التعبوية، نحسها بجلاء من حولنا، في بعض المنابر، ومن داخل بعض قاعات الدرس، وعبر بعض الشاشات وأثير بعض الإذاعات.

ولا نتحدث هنا ضرورة عن أممية للتطرف والإرهاب (حسب التصور الأميركي السائد)، وإنما نعني في حقيقة الأمر مناخًا ثقافيًا معينًا، متنوع المكونات، مشتت المصادر، لا ينتمي في ذاته من حيث منتجيه إلى الظاهرة الإرهابية، وإن كان يوفر له أدواتها النظرية والتعبوية.

ومن أبرز تجليات هذه الثقافة الخطاب التكفيري التبديعي، والذي يضيق ذرعًا بالتنوع الثقافي والعقدي، بل والمذهبي والطائفي في الغالب، ولا يرى في المخالفة سوى خروجًا عن الملة، وليس بمقدوره التعامل مع الديانات وأنماط الاعتقاد المغايرة، خارج بعض المقاييس الفقهية الموروثة، التي تعكس فهمًا وتأويلا محدودًا للنص، يحمل بصمات تجربة تاريخية معينة، بدل الاستناد للمقاصد الثابتة في الدين، وفي مقدمتها نبذ الإكراه وتأكيد كرامة الإنسان، وإشاعة قيم التسامح والتعارف والتضامن بين بني البشر.

فالآراء والتأويلات التي كانت مألوفة في عصور الإسلام الوسيطة، ولم تكن تثير اشمئزازًا أو مقتًا، غدت من المحرمات التي يكفر بها المسلم. وكتب الفلاسفة التي كانت تدافع عن كونية المعقول اليوناني، غابت عن المفاهيم التربوية في المدارس الشرعية، على الرغم من أنها كانت تشكل جزءًا أساسيًا منها. والحوار العقدي والفكري الخصب والحر الذي طبع عصور ازدهار الدولة العربية الإسلامية، أصبح مشبوهًا مرفوضًا.

ومن هذه التجليات أيضًا الاحتفاء بثقافة الموت ونبذ قيم الحياة، واعتبار أنعمها ومتعها مذمومة منفصلة عن الصراط المستقيم، في نمط من الرهبانية المسيحية القديمة التي رفضها الإسلام، أو نوع من التقشف الانعزالي.

ومن الجلي أن هذه الثقافة لا يربطها شيء بتجربة المسلمين التاريخية في عهد ريادتهم وتفوقهم، فكتب التاريخ والأدب شاهدة عل إقبالهم على الحياة ومتعها البريئة من دون استهجان أو وجل.

فهؤلاء أعلام العقيدة والفقه والأصول الأكابر، يؤلفون في فلسفة الحب وسير المحبين وأخبار النساء، ويكتبون تظرفًا في أدب المجون وفنون الوصال الجسدي، من أمثال ابن حزم والسيوطي وابن الجوزي… وغيرهم ممن أخذت عنهم الأمة أحكامها الفقهية، في الوقت الذي يطالب فيه في أكبر دولة عربية بتحريم كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي شكل أحد المصادر الأساسية للثقافة الشعبية السائدة خلال قرون طويلة، وتحجم دور النشر العربية عن تقديم بعض أبيات شعر ابي نواس الخليعة، التي كانت تنشد في مجالس الخلفاء وبحضور أهل العلم والفقه.

تذكر كتب الأدب أنه بينما كان حبر الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس جالسًا في المسجد الحرام، برفقة جمع من أعلام عصره، إذ دخل عليه الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين، فأقبل عليه ابن عباس واستنشده من شعره، فانشده رائعته المشهورة التي مطلعها:

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

غداة غد أم رائح فمهجر

حتى أتى على آخرها (وفيها سرد لمغامراته العاطفية المثيرة) فاستحسنها ابن عباس، فقال له نافع بن الأزرق: الله يا بن عباس، إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقصى البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، فيأتيك غلام مترف من مترفي قريش ينشدك من مجونه، فلم يعبأ له وقال: أنا نستجيدها. وكان يردد: هل أحدث المغيري شيئًا بعدنا؟

[email protected]