احتجاجات المجتمع المغربي قد تمنع الفوران

TT

تطورت أشكال الاحتجاج الاجتماعي في المغرب خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي ، وازدادت تنوعاً في مطلع الألفية الثالثة ، فقد ظلت الأحزاب والنقابات تمارس الفعل الاحتجاجي بواسطة الاضراب، مطالبة بالزيادة في الأجور وتحسين ظروف العمل واحترام حرية العمل النقابي.. ولم تكن الدولة تسمح بتجاوز سقف معين في هذا الباب . كما أن النقابات كانت تشتغل في إطار القوانين الجاري بها العمل.

إلا أن التحولات السياسية والاقتصادية التي عرفها المغرب في مطلع الثمانينيات ، فجرت ديناميات جديدة في مجالات التحول السياسي والاجتماعي. وتعتبر أحداث البيضاء سنة 1981 بمثابة علامة كاشفة عن عمق المخاضات التي كانت تتفاعل في قلب المجتمع المغربي، وقد ترتب عنها وعن أحداثها ما يقتضي لزوم تجاوز الخيارات التراجيدية السائدة ، خيارات الخوف التي تنفجر بدون ضوابط، وخيارات التدمير التي تكشف عدم قدرة المؤسسات السياسية القائمة على تنظيم المجتمع ومعرفة تفاعلاته وتناقضاته الفعلية.

إن تبلور مجموعة من التنظمات المجتمعية الهادفة إلى ضبط آليات العمل الاجتماعي، في مغرب نهاية القرن العشرين، كشف حيوية المجتمع، وكشف، في الآن نفسه، قدرة هذه التنظيمات على تجاوز كثير من الآليات التقليدية، في مجال التعبير عن مواقفها من التحولات الوطنية والقومية والعالمية، فنشأت في قلب مجتمعنا آليات جديدة في الفعل الاجتماعي، عملت على استثمار رصيد تجارب التاريخ الوطني في المقاومة، وتجارب الدول التي عرفت في تحولها الديمقراطي، مرحلة انتقالية، أتاحت لها عن طريق الحوار والتفاوض، بناء خيارات سياسية .

وقد ساهم الانتقال في مجال الاحتجاج الاجتماعي في المغرب، من الإضراب إلى احتلال الفضاء العمومي بواسطة المظاهرات والمسيرات والوقفات، في بلورة ثقافة وممارسة احتجاجية جديدة في مختلف مجالات الحياة، وعكس إمكانية تبلور مجتمع مدني أكثر دينامية ، ودولة أكثر قدرة على ترتيب إمكانية التفاوض بالمرونة السياسية التي تتطلبها مراحل التحول، من قبيل ما هو حاصل اليوم في بلادنا. وفي قلب هذه الجدلية السياسية الاجتماعية، نشأت إمكانية حصول وتحقق التحول الديمقراطي في بلادنا، ذلك أننا نفترض أن لجوء التنظيمات المدنية إلى التأثير على الرأي العام، ومراكز القرار، بواسطة الخروج إلى الساحات العمومية والشوراع الكبرى، وبأسلوب يكتفي بحمل الشارات والشعارات، سيساهم في تطوير علاقة الدولة بالمجتمع، حيث تتجه الدولة لتجاوز تدبير التوتر الاجتماعي بالتوقيف عن العمل أو بالإعتقال ، وتعمل تنظمات المجتمع المدني على تجاوز أساليب العنف المضادة والمعبرة عن غضبها اليائس. والأسلوبان معاً سابقان في نظرنا على مستلزمات مراحل الانتقال الديمقراطي، التي نفترض أنها تتطلب اعترافاً متبادلا وثقة متبادلة ، والاعتراف والثقة يمهدان لتركيب التوافقات المطلوبة..

وقد عرف المغرب في تاريخه المعاصر صور التنافر والتباعد بين قوى المجتمع والدولة، ويتجه اليوم لتجاوز تركة التنافر المتبادل، بشكل يمنح مسار التحول الديمقراطي في بلادنا، المؤسسات والممارسات البانية لقواعد الحوار والتفاوض، والحاضنة للتوافقات الممكنة.

تنوعت آليات الاحتجاج في السنوات الأخيرة بصورة مطردة، وساهمت جمعية الشباب العاطلين عن العمل،

والتي ازدادات حضوراً، وذلك بتأسيسها لمجموعة من الفروع في كثير من الحواضر والمدن الصغرى المغربية، ساهمت في دعم الآليات الاحتجاجية وذلك بابتكارها لأساليب جديدة في العمل المدني.

ومن بين الوسائل التي لجأت إليها للتعبير عن احتجاجها عن الحيف الذي يعاني منه الشباب الذين يحملون شهادات عليا ولا يجدون منافذ للشغل، الاضراب عن الطعام، والاعتصام بمقرات الاحزاب والنقابات، بل إنها لجأت منه سنة 1995 إلى نقل اعتصامها إلى الشوارع والفضاءات العمومية. ورغم أن الدولة لجأت في بعض الأحيان إلى استعمال العنف معها، ومع بعض تظاهرات جمعية «العدل والاحسان» ، وتظاهرات «الجمعية المغربية لحقوق الانسان» ، إلا أن هذا لم يثن الجمعيات المذكورة عن مواصلة خياراتها في الاحتجاج الرامية إلى تعبئة الرأي العام والضغط على أجهزة الدولة.

وما عزز وتيرة الاحتجاج الاجتماعي في الآونة الأخيرة، نشوء جمعيات جديدة ينتمي أفرادها إلى قطاعات اجتماعية أخرى، مثل جمعيات التجار، وأصحاب سيارات الأجرة، وجمعيات المنخرطين في وكالات الماء والكهرباء، الذين اتجهوا للتعبير عن مواقفهم من النتائج المترتبة عن خوصصة هذه القطاعات التي كانت في ملك الدولة، فقد قدمت هذه الحركات نماذج جديدة من صور الاحتجاج، وترتب عنها بناء علاقات تفاوض عملت بدورها على ترسيخ قيم الحوار والتوافق، وذلك ببناء شبكات مجتمعية معنية بإبداء الرأي في شؤون تتعلق بحياتها اليومية.

ولا شك في أن تأسيس جمعية مناهضة للارهاب بعد أحداث 16 مايو (أيار) بالدارالبيضاء، وتنظيمها لمسيرة كبرى ضد الارهاب في مدينة الدار البيضاء يوم 25 مايو 2002، قد عزز خيار الاحتجاج بالتظاهر والتعبير عن الرأي، مثلما أن المظاهرات الكبرى التي أشرفت عيها جمعيات التضامن مع الشعب العراقي، قد ساهمت بدورها في ترسيخ الاحتجاج بالتظاهر في الأمكنة العامة.

ولا ينبغي أن ننسى هنا الاشارة إلى الدور الذي لعبته بعض الصحف في تغطية مثل هذه المواقف، مما زاد المواقف الاحتجاجية قوة، وعكس أشكال وعي الفاعلين بالتحولات الجارية في مجتمعنا.

نستطيع القول إذن إن مؤشر الاحتجاج الاجتماعي، يعكس في بعض جوانبه، صورة من صور مخاضات الانتقال الديمقراطي القائم اليوم في بلادنا المغرب، ونحن نتصور أن هذا الاختيار سيساهم في تصليب عود الدولة، وذلك بانخراطها في مسلسل الدمقرطة بالحوار والتفاوض، كما يساهم في تقوية النسيج الاجتماعي بالتربية على التدبير الذي ينطلق من العناية بالشؤون المحلية في مختلف صورها، ليبلغ مراتب عليا في مواجهة الشأن العام في مظاهره وتجلياته المختلفة.

لا نريد أن يفهم من الصورة المرسومة في الفقرات السابقة بكثير من الاختزال أننا أمام معطيات جرت وتجري بسهولة ويسر، بل إن العكس هو الصحيح، ففي المعطيات الاحتجاجية المذكورة كثير من التعقيد الاجتماعي وكثير من التوتر السياسي، بل وكثير من التضحيات. ففي لحظات التحول المماثلة لما يجري في مجتمعنا المغربي، نواجه في بعض الأحيان ظواهر عصية على الحوار والتفاوض، وظواهر تحتاج إلى مدى زمني أطول لإيجاد الحلول المناسبة لها، كما أن بعضها يحتاج إلى الحسم في اختيارات قد لا تكون سهلة، وقد لا تسمح اكراهات الواقع بالقيام بها. نحن هنا نشير إلى مشكل بطالة الشباب من خريجي الجامعات الذي يعكس مآزق تعليمنا، ومآزق اقتصادنا، وتركة اختيارات سياسية عمرت كثيراً في بلادنا.

لهذا السبب سنجد أن بعض صور الاحتجاج، اتخذت أبعاداً درامية، من قبيل تهديد بعض الشباب بإحراق أنفسهم، وذلك لإحساسهم بأنهم استنفذوا مختلف وسائل الاحتجاج، أو لجوء البعض إلى تكبيل أيديهم وأعناقهم بالسلاسل، بل وإلى تكبيل أجسادهم كاملة بسلاسل موصولة بالأبواب الحديدية لبناية البرلمان، لكي لا تزحزحهم أي قوة من مكانهم، وهي صور تكشف درجة التناقضات، وتستدعي مواصلة بذل الجهود الرامية لتقليص حدة المشاكل الاجتماعية والسياسية القائمة.

نخلص من سياق ما سبق، إلى التأكيد على أهمية الفعل الاحتجاجي المدني، في توليد صيغ من العمل الاجتماعي المعزز لآليات الانتقال الديمقراطي، ونحن نلح على أهمية عناية مراكز القرار في الدولة بالمطالب التي تنشأ في قلب حركية التحولات الجارية في بلادنا... إننا نقرأ أفعال الاحتجاج بصورة ايجابية، لأننا نعاين فيها صيغاً من التجاوز لثقافة القمع التي كانت تكتفي بخنق المحتجين دون عناية بمطالبهم، ودون برمجة لإمكانية ايجاد الحلول المناسبة لها، وهذا الأمر بالذات يضع الدولة في قلب عملية التحول الديمقراطي، ويبعد عن المجتمع إمكانية الفوران الذي يمكن ان يأتي على الأخضر واليابس.