قصة النجف .. بين عمامتين

TT

شتان بين عمامة آية الله علي السيستاني وهي تلوح بغصن الزيتون، والمبادرة السلمية لحماية النجف وضريحها العلوي من حمام دم، وبين عمائم تحمل مدفع الهاون، وتعلق على أكتافها أشرطة الرصاص المدمر.

وعمامة السيستاني بهذه الحكمة حملت في طياتها تاريخ النجف الثري بالزمن والفقه، فهي واحة من العلم والأدب، واقترنت عمائمها في ذاكرتنا بالسلام والتراضي الاجتماعي، وقول كلمة الحق نصيحة أو زجراً. هكذا هي العمائم، عرفناها قبل أن يظهر علينا مَنْ دعاها إلى العنف المسلح والتمنطق بأحزمة الديناميت، وحمل العامة على ما لا تطيق، والهتاف لأغراض أخرى باسم الدين، واحتكار ملكوت الله.

الصورة مشوهة لذاكرتي الجميلة عن العمامة، أن أرى معتمرها يحمل خنجراً أو رشاشاً، تُنظم خطواته ضربات طبول الحرب إلى فرض العقيدة قسراً، وتهميش الإيمان عن طريق العقل، فكم ينقص قدرها حين تعتمر بدلاً من البيريه على الرؤوس، وهي أزكى منها بكثير. وبالمقابل كم يبدو معتمرها هزيلاً وهو يحشو بدنه تحت كرسي السلطان، يطوع له العامة بالكلمة المقدسة. لقد كان من أعراف وطباع مراجع النجف أن يأتيهم السلطان ولا يأتونه، فالضيف مهما بلغت منزلته أقل عزة في لحظة الاستضافة.

أرى منزلة العمامة كمنزلة المطر، تحيي القلوب عند جفافها وموتها، ودليلي على هذا أن العمائم حفيدات عمامة اعتمرها صاحب الضريح في وادي النجف، وهي هدية من الرسول له، وكان اسمها «السحاب»، جاء في «لسان العرب» و«تاج العروس» حول علة التسمية: «سميت به تشبيها بسحاب المطر»، وهل هناك نقاوة تفوق نقاوة ماء السحاب؟

المفروض أن يكون أصحاب العمائم متسامحين بعواطف نقية كماء السماء، يندفعون إلى السلام اندفاع الدلافين لإنقاذ الغرقى، من دون أن يحسبوا حساباً للكراهية والبغضاء، كان عبد المجيد الخوئي، في الموقف الذي قتل فيه، على هذه الشاكلة، فتجرأ عليه حملة الخناجر والمتأبطون شراً في أقدس بقعة عند الشيعة بعد الحرمين بالحجاز وثالثهما الحرم القدسي. فمن أين لمعتمر العمامة كل هذه القسوة، أن يطعن ويقتل ويقطع أوصال ضحيته ويجمعها داخل كيس، ويسحبها على وجه الأرض، والدين يحرم المثلة بأي كائن كان، وصاحب الضريح، الذي تجاوزه القاتلون أوصى أن لا يُمثل بقاتله عبد الرحمن بن ملجم، ولم ينعته عندما أوصى ولديه بشأنه بما لا يليق، قال: «لا تمثلوا بالرجل فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور» (من وصيته للحسن والحسين). ونحن لا نطلب من قتلة السيد عبد المجيد الخوئي أن يرتقوا بخلقهم إلى خلق الإمام علي، بل محاولة لتحريك شعرة الإنسانية التي تجمعهم به إن لم يجتمع معهم، حسب فتوتهم وممارستهم، في الدين والمذهب.

الشيخ محمد حسين الصغير أحد الذين خلعوا العمامة عندما أراد منه البعثيون الظهور على شاشة التلفزيون، قال يومها: أنا لست من أصحاب العمائم! فعل هذا إكراماً للعمامة، كذلك إكراماً للشعر أعلن اعتزاله، واستمر معتزلاً ما أحب منذ الطفولة، حتى التاسع من أبريل 2003. طلبنا من الشيخ والأستاذ الجامعي الصغير تقديم محاضرة بديوان الكوفة حول أصول الدراسة في الحوزة العلمية الدينية بالنجف، حيث تُعتمر العمائم، احتج بشدة على تحديد الموضوع، معللاً رفضه بالقول: إنه عنوان بسيط ومعروف للجميع! وحبذ أمسية أدبية أو أي مادة أخرى. قلت له: كم من العراقيين يعرفون هذه الأُصول؟ لا يعرف بالمقدمات والسطوح ودرس الخارج غير نجفي مطلع، أو متعلم في مجالسها، أو قارئ لكتاب «ماضي النجف وحاضرها»، أو موسوعة «العتبات المقدسة» للجعفرين آل حبوبة والخليلي. وافق الشيخ على مضض، حتى أنه لم يبدأ عنوان المحاضرة إلا بعد أن أبحر في تاريخ المرجعية وآداب النجف، وما غاب عن ذاكرة الدكتور محمد مكية من تفاصيل مشروع جامعة الكوفة. بدأ العنوان مع توجيه نظرة لوم لي مع كلمات: نأتي الآن على العنوان المختار!

انطلق الشيخ الصغير في رفضه لتقديم محاضرة في مثل هذا الموضوع بأنه معروف للجميع، فعشرة قرون وهذه الأصول تتداول في أروقة الصحن العلوي، وباحات المساجد والمدارس ومكتبات العلماء، وصدرت من العمائم إلى ديار الدنيا ما لا يحصى ويعد. لكن الحقيقة أن هذا التاريخ كان وما زال غائباً بالعراق، بينما أحمد أمين قدم من مصر عام 1933، ليطلع على آلية عمل مصنع الفقهاء والعمائم في مجلس لمحمد حسين كاشف الغطاء بالنجف. ففي مدارسنا لا شيء عن مدرسة تنتمي إلى العصر العباسي زمناً، وما زالت قوية تقاوم موجات التحديث، التي أراها مؤذية بحقها، وأسلوبها وتقاليدها.

كم كنت أتمنى أن تُنظم رحلات مدرسية إلى أروقة تلك المدينة، والنظر في حلقات العلم الفقهي فيها؟ أو نتعلم ولو خمسة أسطر حول ماضي وحاضر هذه المدرسة، أو ذهبنا بسفرة أدبية يشرف عليها معلم أو مدرس اللغة العربية وجلسنا في منتدى من منتدياتها، أو في مقهى من مقاهيها نسمع نجفياً بسيطاً ينطق بعفوية كلمة «آسف» المفردة الفصحى الغائبة اليوم، أو يقرأ واحدة من قصائد الحبوبي، أو زرنا التربة التي عاش فيها مَنْ لقبه من غير العراقيين بشاعر العرب الأكبر. لكن السلطات كانت تشد الرحال إلى النجف طلباً لفتاوى مؤيدة أو مؤذية.

لم يؤذ النجف أصحاب نغمة الحداثة فقط، وإنما شاركت الأحزاب الدينية الشيعية نفسها في الإيذاء، تريد منها نزع العقلانية، وترك التسور بمحيطها العلمي، لتدخل سوق السياسة والحزبية المتغير بالنسبة لثوابتها. الأحزاب التي وجهت أعضاءها إلى تعصب ديني خارج عن المعقول، فشغلتهم بكراهية الأدب، وكراهية المسلم الشيعي الآخر ناهيك عن المسلم السني وغير المسلم. انسحبت هذه الأحزاب بمنتسبيها إلى الخلف، محاولة تحقيق شمولية باسم الدين والمذهب، وليس جيش المهدي ومقتدى الصدر بخارج عن هذا المؤثر. لقد سرت الخمينية بقوة في مفاصل هذه الأحزاب، حتى أمست قبلتها في التحرك. الخمينية المؤذية لمقدمات المذهب وسطوحه، لأنها إنجاز سياسي مؤقت، أرادت التسربل بديمومة الدين والمذهب، فتحول إنجاز تلك الأحزاب العراقية إلى ذيل للإنجاز الإيراني الخائب. أقول: النجف بحوزتها وحضورها التاريخي والعلمي والأدبي، وتعففها عن الشأن الحزبي، هي مدينة فاضلة. مدينة لا تمنع شيئاً لا يخدش تقاليدها ظاهراً، أما الباطن وما استتر فمآله إلى الله. هل سمعتم مرة أن مرجعاً دينياً جند جلاوزة يجوبون شوارع النجف لرصد حركات الناس وصفاتهم؟ هل حرمت النجف ديوان شعر مثل ديوان «زنجاف الكلام» وأشعار خدشت الحياء العام للشاعر المتمرد حسين قسام؟ أو أقيم حد الجلد أو الرجم على مبتل، أو أقيم حد السرقة على سارق، أو حكم ردة وما إلى ذلك؟ لم يحدث هذا بالنجف ، لأن من مهام الحوزة الرشد والوعظ وتصدير رسائل فقه، مَنْ يلتزمها يلتزم ومَنْ يتركها حسابه عند الله، فليس من شأنها العقوبة الدنيوية، وإنما هناك دولة لها محاكم وشرطة. اعمل ما شئت بالنجف فحرية بيتك وتفكيرك مصونة بأعرافها، إلا خدش تقاليد عامة، فالمدينة تلقائياً لا تقربها، تقاليد لولاها ما أكملت الحوزة الدينية عامها الألف.

أتدرون أول كتاب يعلم أصول الديمقراطية ظهر بالنجف العام 1909، يوم كانت أوروبا تحبو في الطريق إلى الحياة البرلمانية، وهو كتاب «تنبية الأمة وتنزيه الملة» للمرجع الشيخ محمد حسين النائيني. نشرته مطابع النجف في خضم الصراع السلمي بين المشروطة والمستبدة. أهم درس لعلماء النجف هو تحبيذ الناس في المأثور النبوي «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، ذلك أنهم تركوا مهام السياسة للناس، قالوا لهم: اختاروا ما شئتم! ستقول لي: كيف أولت أو فسرت أو أضفت هذه الفضيلة إلى فضائل النجف؟ أقول: علماء النجف ينتظرون مثل غيرهم من خواص وعوام الشيعة الإمام المهدي المنتظر، وهو أمل وردي يساعد على تجاوز محن الحياة، ويخفف من كوارثها البشرية والبيئية، وهو من حقه فقط إقامة النظام الذي يفرضه بمشيئة الله، وليس لابن آدم أن يفرض نظامه بانقلاب عسكري أو تمرد مسلح باسم الدين واسم المهدي.

فمثل هذا الأمر الخطير، حسب التقليد الشيعي، لا يقوم به غير شخصية خطيرة مؤيدة من الله هو المهدي المنتظر، وبهذا المفهوم خدم علماء الشيعة دخول الناس في العملية السياسية وتأسيس النظام الذي يطلبونه ويتفقون عليه. تجدهم بهذا مخلصين لرد الإمام علي على الخوارج عندما قالوا له محتجين على التحكيم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان: «لا حكم إلا لله ولا نحكم الرجال». قال الإمام علي: «وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر».

ما أوذيت تقاليد المذهب الشيعي، في ترك قرار الناس بالحكم للناس مثلما أُوذيت بمحاولات الأحزاب الشيعية الدينية، وإفرازات الثورة الإيرانية لحملها على القبول بولاية الفقيه، وهو مبدأ لا يقل خطورة وتجاوزاً على اختيارات الناس، وتشويه انتظارهم للأمل بشخص أو فكرة عن صيحة الخوارج بوجه الإمام علي بن أبي طالب «لا حكم إلا لله». كانت نتيجة ولاية الفقيه ضياع هيبة الفقيه، وترك كتابه ودرسه الفقهي، ليحمل، وهو يعتمر العمامة، المدفع الهاون، والآربيجي والقنابل. لكن ما ينتظر ولاية الفقيه ثورة عارمة، قد لا تبقي ولا تذر.

* كاتب وباحث عراقي