العالم والسودان: مساعدة أم عقاب..؟

TT

قبل عام وقَّع في مدينة جدة النائب الأول لرئيس جمهورية السودان، ورئيس التجمع الوطني المعارض ما سمي: الاتفاق الاطاري بين الحكومة والتجمع. وورد نص في صلب الاتفاق يؤكد على ضرورة «ايجاد آلية للحوار بين الطرفين، وتحديد مكان وزمان للقاء للبدء فوراً.. في الحوار حول تفاصيل الاتفاق» لكن فوراً.. هذه امتدت، ولم تترجم إلى عمل إلاَّ الأسبوع الماضي حيث اجتمعت الآلية المشار اليها في القاهرة برعاية الأشقاء المصريين. ثم انتهت بتكوين عدة لجان مع ارجاء المفاوضات لشهر آخر، لماذا؟ لا أحد يدري.

ولا غرابة في الأمر اذا تذكرنا أن مفاوضات السلام الدائرة بواسطة مجموعة الايقاد تجاوزت الآن العشر سنوات، وان اتفاق مشاكوس الاطاري الذي كان مدخلاً اخيراً لاتفاق السلام دخل عامه الثالث، وبروتوكولات السلام التي تمخضت عنه وقعت في نيفاشا منذ اربعة أشهر فقط وحتى تكون صكوكاً نافذة بانتظار اتفاق الملاحق التي تنظمها وليس في وارد الأمل اكتمالها قبل بداية العام الجديد! وهناك مفاوضات ابوجا التي بدأت الاسبوع الماضي بين الحكومة ومقاتلي دارفور وهي مفاوضات مفتوحة والله وحده يعلم كم ستستغرق من الزمن.

من حق المرء أن يتساءل: لماذا هذا التعدد في مسالك المفاوضات اذا كانت القضية واحدة، وهي كيف يحكم السودان وتقسَّم ثروته وسلطته بعدالة وتراضٍ بين كل أهله؟

فإذا كانت الحكومة دأبت منذ اكثر من عقد من الزمن على شراء الوقت للاستمرار في الحكم، الآن ما عاد هناك وقت يشترى بعدما حدث في دارفور وإرهاصات ما هو متوقع في شرق السودان، وتململ النوبة في الشمال. أولم يجمع الرأي على ان الاتفاق المبدئي مع جون قرنق هو أحد البواعث الرئيسية لتفجر الأوضاع في دارفور؟ واذا توصلت الحكومة لاتفاق في أبوجا مع مقاتلي دارفور ألا يُعجِّل ذلك بتفجير الأوضاع في شرق السودان، وهلم جرا؟ علماً بأن مقاتلي دارفور وقعوا ميثاق تحالف مع منظمتين في الشرق ليتكامل القتال!

ترى هل ما زال أهل الحكم يتصرفون بعقلية الاستفراد بكل مجموعة على حدة ليعقدوا فيها اتفاقاً يجعل قسمة أهل الحكم هي الأوفى، ويكفوا عنهم مواجهة كل الشرائح دفعة واحدة؟ أولم ينظروا إلى النتائج الماثلة؟ وخلاصتها ان السودان كله آيل للتفكك إلى دويلات وأن الأطماع تكاثرت عليه وأوشكت على تمزيق نسيجه الاجتماعي بحيث لا تبقى فيه دولة تسمى السودان. ولعل الدرس الأهم هو أين اتفاق مشاكوس؟، يكاد يتلاشى في خضم حرب دارفور، واذا تم اتفاق في ابوجا مع أهل دارفور سيتلاشى هو الآخر في حرب الشرق الوشيكة، وهكذا دواليك.. إذن المخرج الوحيد والأساسي والسريع هو تجميع كل هذه القوى في مؤتمر دستوري شامل حتى يصل الجميع إلى كلمة سواء. ولا توجد أيه اعتراضات من كل الشرائح في المعارضة على عقد مثل هذا المؤتمر، بل الجميع يطالب به وما على الحكومة إلا أن تجهر بالقبول والسعي إليه ولا بأس ان يكون بإشراف افريقي ـ عربي. ولا ريب أن عقد هذا المؤتمر سيسد منافذ التدخل الأجنبي، وإذا كان التجمع الوطني المعارض يضم معظم القوى السياسية بما فيها حركة قرنق وحركات الغرب والشرق فإن الاتفاق الاطاري الذي اتفق على آلياته في القاهرة يعكس اجندة وطموحات جميع أهل السودان ولا يتعارض اطلاقاً مع ما تم الاتفاق حوله حتى الآن بين الحكومة والحركة، بل إن أول بنوده ينص بالحرف على ما يلي:

ـ دعم ما ورد في الاتفاق الاطاري لمشاكوس في يوليو 2002 وما تم الاتفاق عليه حول وحدة السودان وحق تقرير المصير وعلاقة الدين بالدولة وما تلا ذلك، وما سيلي إن شاء الله، من اتفاق حول بقية النقاط في نيفاشا.

ولا شك ان هذه الفقرة تمثل اكبر ضمانة للبروتوكولات التي تم توقيعها، بل وتزيد ذلك بالعزم على الموافقة على ما يليها وهذا وحده كافٍ لوجوب المشاركة في الملاحق التي ما زالت تراوح مكانها لما وقع من مزايدات بين الجانبين.

واذا جاز لنا ان نستعرض كل بنود اتفاق جدة الاطاري نجدها شاملة لكل القضايا المثارة إن في نيفاشا أو أبوجا فهي تؤمن على ان المواطنة هي اساس الحقوق والواجبات دون تفرقة على أسس دينية أو عرقية أو حزبية، وأن يكون نظام الحكم ديمقراطياً تعددياً، وان يحكم السودان حكما لا مركزيا «فيدراليا» في اطار وحدة ارض وشعب السودان، مع وجوب قومية القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى.. وأن تكون السيادة لحكم القانون واستقلال القضاء بما يمكنه من اداء مهامه دون تدخل أو تأثير من أحد.

لعل الشقيقة مصر التي رعت اخيراً اجتماع الحكومة والتجمع هي الأقدر والأنسب لتبني هذه الفكرة، ليس بسبب علاقاتها المميزة مع كل القوى السياسية السودانية فحسب وإنما كذلك لعلاقاتها الحميدة مع المحيط الافريقي ممثلا في دول «الايقاد» والاتحاد الافريقي، ومن جهة اخرى لصلاتها الوثيقة مع الدول الشريكة والصديقة لوسطاء الايقاد وعلى رأسها الولايات المتحدة، وكل هؤلاء يرحب بمشاركتهم مراقبين ومساندين في هذا المؤتمر الدستوري الذي قد لا يستغرق شهراً وينتهي كل شيء عوضاً عن هذه الجملة من المفاوضات الجانبية التي لا تزيد أوضاع السودان إلا تعقيداً وأهله الا تشتتاً.

وهذا المجتمع الدولي الذي يرحب به للمساهمة في معالجة الشأن السوداني هو اليوم على موعد حاسم مع النظام السوداني في الاجتماع المنتظر من مجلس الأمن الدولي بعد انقضاء مدة الشهر التي كان قد حددها للنظر في اتخاذ تدابير عقابية ما لم يفعل ما هو مطلوب منه ازاء محنة دارفور الانسانية. ورغم قصر المدة إلا ان الحكومة يبدو انها قد بذلت جهداً كبيراً واثبتت عزما وحسن نية، ما يرجح على أقل تقدير ان يتكرم عليها المجلس بفسحة اضافية من الزمن، خاصة ان الأمين العام للأمم المتحدة قد هاتف الرئيس السوداني قبيل انتهاء الفترة معرباً عن ارتياحه وتقديره لما تم انجازه ما يعني ابعاد شبح التدخل العسكري أو فرض عقوبات، وأغلب الظن ان مجلس الأمن سيتيح للحكومة فرصة اضافية وانه سيؤمن على مساندة الدور الافريقي الذي يضطلع به الرئيس النيجيري أوباسانجو خاصة ان رئيس الاتحاد الافريقي الذي يرعى المفاوضات قد نسب له انه بعث برسالة للأمين العام يعبر فيها عن تفاؤله بسير المفاوضات وقدرة الاتحاد الافريقي على احتواء الموقف. ولعل ما هو أهم من انشغال المجلس بفرض العقوبات، هو الاهتمام بالقضية الاساسية والعاجلة والمتمثلة في زيادة العون الاغاثي وسرعة ارساله اذ كل الاحصاءات تشير إلى نقص يصل إلى نصف ما هو مطلوب. وما لم تسارع الدول القادرة وتتكاتف وتسخى في العطاء فإن مئات الآلاف من الأنفس ستموت جوعاً وعطشاً ومرضاً.. وحتى بعد الاغاثة فإن استمرار استقرار الاوضاع يحتاج إلى عون تنموي يبعد شبح الاحتكاكات الذي يكرر بين فينة وأخرى نتيجة لظروف اقتصادية قاهرة ولهذا فإن الأمر يحتاج إلى ما هو اكثر من الإغاثة.