مشكلة النجف : هل تبشر بنموذج جديد في العراق ؟

TT

أثارت النهاية السلمية للمواجهة التي حدثت في ضريح الإمام علي بن أبي طالب بالنجف، الأسبوع الماضي، سيلا من التعليقات والتحليلات في كل أنحاء الشرق الأوسط ، فيما أصابت خيبة الأمل أولئك القوميين الذين كانوا يريدون رفع مقتدى الصدر إلى مقام الزعيم الجديد الذي يحمل رايتهم، بعد أن فشل في الإتيان باستراتيجية جديدة. اما دعاة الديمقراطية، من الجانب الآخر، فقد عبروا عن مخاوفهم من حقيقة أن آية الله علي السيستاني هو الذي وجد حلا للأزمة.

ومع ذلك ، فإن ما حدث في النجف كان أفضل ما يمكن الوصول إليه خروجا من ذلك الوضع السيئ. وقد كان الصدر وأتباعه يلعبون لعبة العنف، وهي اللعبة السياسية الوحيدة التي عرفها العراقيون منذ 1958. وإذا كان الصدر قد أُخرج من النجف عن طريق قوة أعظم، تستخدمها القوات العراقية وقوات التحالف، فإن النتيجة ستكون بمثابة التأكيد على فرضيته القائلة بأن كل من يقتل عددا أكبر من الناس هو الذي يكسب المعركة السياسية.

ولقد غير تدخل السيستاني طبيعة اللعبة تماما. وباستخدام آية الله لما يمكن أن يسمى « قوة الشعب»، فإنه نجح في كسر تقليد العنف السياسي الذي أسس له انقلاب عام 1958. فقد أوضح أن المرء يمكن أن يكسب معركة سياسية بدون أن يريق كثيرا من الدماء، وهذا درس لكل العراقيين يوضح أن السياسة ليست دائما غالبا ومغلوبا، دع عنك أن تكون تجرعا للهزيمة من قبل كل الأطراف.

كسب الصدر حياته، وقد لاحت أمامه حاليا فرصة واسعة لتجنب الاعتقال والمحاكمة ، لمساهمته المفترضة في اغتيال حجة الإسلام عبد المجيد الخوئي العام الماضي. كما انتصر أتباع الصدر لأنهم يستطيعون الآن أن يعودوا إلى منازلهم، وأكثرهم من بغداد، وهم سالمون من كل أذى. وبناء على بعض التقديرات فإن المواجهة التي أشعلها الصدر راح ضحيتها أكثر من 1000 شخص، وهو ثمن باهظ جدا للسيطرة القصيرة على عناوين الأخبار.

ومن الجانب الآخر فإن الحكومة الانتقالية لرئيس الوزراء، إياد علاوي، كسبت هي الأخرى. فقد كان هدفها إعادة القانون والنظام إلى النجف، وقد حققت هذا الهدف دون حمامات دماء. كما أدى الحل السلمي ايضا إلى تقوية مواقع أولئك النفر داخل الحكومة العراقية، الذين يفكرون بطريقة تتخطى أنماط التفكير العراقية التقليدية القائمة على العنف. وأما أولئك الوزراء الذين حاولوا الظهور بمظهر العمالقة، وإن بشكل كاريكاتوري، على طريقة صدام حسين، فقد خسروا. وهذه نتيجة جيدة جدا بالنسبة لسلامة أوضاع التحالف العراقي الحاكم والمكون من أطراف شديدة التباين.

ولا بد للمرء أن يعد من ضمن الفائزين إدارة بوش بواشنطن. فنهاية مواجهة النجف تعني أن مؤتمر الحزب الجمهوري في نيويورك، لن تهيمن عليه الأخبار السيئة من العراق.

وهل يحتاج المرء أن يقول إن السيستاني كان من أكبر المنتصرين؟ فقد أكد آية الله العظمى مكانته كمرجعية عليا للسياسة العراقية في هذا المنعطف الحاسم. وهو يلعب هذا الدور بدون حماس كبير لأنه يعلم أن الانشغال المباشر بالسياسة يمكن أن يدخل رجال الدين في دوامة لا يفهمونها ، ولا يستطيعون التحكم فيها. وربما يكون هذا هو السبب الذي جعل السيستاني يصر منذ البداية على شيئين: الأول هو التشاور الواسع مع الزعماء في كل مجالات الحياة في النجف. وهو يرمي من هذا إلى إعطاء مبادرته طابعا مدنيا، بدلا عن طابع ديني محض. وربما يكون السيستاني قد تعلم ذلك، وهو دارس حصيف للتاريخ، من آيات الله في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والذين لعبوا دورا أساسيا في انتصار ثورة 1906 الدستورية.

أما الشيء الثاني الذي لجأ إليه السيستاني فهو تعبئة «القوة الشعبية» كما سبقت الإشارة، وبنفس الطريقة التي لجأ إليها الزعماء المعادون للشيوعية قبل سقوط الإمبراطورية الشيوعية في أوروبا. وقد انطوت تلك الخطوة على رسالة بسيطة ، ولكنها بالغة القوة، وهي أن شعب العراق يرفض سياسة العنف، ولكنه في نفس الوقت غير مستعد لإعطاء الشرعية لحكومة غير منتخبة تدعمها القوات الأميركية.

ولكن المنتصر الأعظم من أحداث النجف هو الشعب العراقي نفسه، وهو القوة التي كان يجب أن تعترف بها قوات التحالف منذ البداية ، ولكنها لم تفعل. ويحتاج التحالف حاليا لهذه القوة في تحول العراق إلى قطر ومجتمع ، ليس مختلفا فقط عما كان عليه على أيام صدام حسين، بل أفضل منه بكثير.

ويجب أن يقال إن « قوة الشعب العراقي» ما تزال محتاجة للـ 150 ألف جندي التابعين لقوات التحالف. والسؤال الجوهري في أزمة العراق الحالية هو : ما هي أفضل طريقة، وما أقصى السرعة، لخلق قوة شعبية عراقية لا تحتاج إلى قوات التحالف؟

إن السيستاني وغيره من كبار الزعماء الدينيين الشيعة يتفهمون ذلك جيدا. وهذا هو السبب الذي جعل السيستاني يدعو إلى منزله عددا كبيرا من الزعماء الدينيين بغرض التشاور، بمجرد نهاية احتلال ضريح الإمام علي. وكان من ضمن الحضور في ذلك اللقاء آية الله محمد سيد الحكيم الطباطبائي، وآية الله بشير النجفي، وآية الله إسحق الفياض ، وهم أكبر ثلاثة من رجال الدين في الحوزة الشيعية. وهذا الثلاثي هو الذي سيمثل المرجعية، في حالة غياب السيستاني.

وقد اقدم المؤتمرون في دار السيستاني على خطوة غير عادية ، وهي إصدار بيان جماهيري دعوا فيه إلى عدم استخدام القوة ضد القوات الأميركية. وهم يرمون بذلك إلى تطبيق سياسة التحالف المجازة من قبل الأمم المتحدة، وهي تكوين جمعية تأسيسية منتخبة، وإجراء استفتاء على نسخة الدستور الجديد، وأخيرا إجراء الانتخابات العامة ، التي ستتمخض عنها حكومة تستمد شرعيتها من الشعب.

ولم يكن ممكنا تصور الحلول السلمية للأزمات بدون تدمير نظام صدام حسين. إذ لم يكن من الممكن أن يكون هناك جيش المهدي أو مقتدى الصدر تحت نظام صدام حسين. كما أنه لم يكن بإمكان السيستاني تعبئة «قوة الشعب» بأي مستوى من المستويات. فلم يكن أحد يملك اية قوة تحت نظام صدام، باستثناء صدام نفسه. بل لم يكن أقرب المقربين إلى الطاغية ، أكثر من مسؤولين صغار ، يمكن إزاحتهم أو قتلهم في اية لحظة.

أما الوضع في عراق ما بعد صدام، فهو على العكس تماما: فالجميع يملك حاليا قدرا من السلطة. ويمكن لمجموعة من الشباب العاطلين أن يجتمعوا ويكونوا عصابة ما لهذا الهدف أو ذاك: اختطاف الأجانب، حبس الرهائن، سرقة المحال التجارية والشركات، ويدّعون البطولات باعتبار أنهم يقاومون «الاحتلال». ففي غياب سلطة منتخبة قامت حركة إحياء واسعة لأشكال السلطة التقليدية، من الزعماء القبليين والعشائريين والحرفيين، وبالطبع الزعماء الدينيين، شيعة وسنة.

هذه التجزئة للسلطة ليست شيئا ضارا بالضرورة. فالصورة المثالية للعراق هي ذلك البلد الذي يتمتع كل مواطنيه بنصيب في السلطة تمثله أصواتهم الانتخابية. وبالطبع فالتسوية التي حدثت في النجف أبعد من أن تكون هي المثالية.

فمن الممكن للصدر إحياء جيش المهدي في أية لحظة. كما أن تفاديه للمحاكمة بتهمة القتل لا يمكن أن يجد الترحيب من دعاة الأمن والنظام. كما أنه ليست هناك أية ضمانات بأن آيات الله الآخرين بالنجف يشاركون السيستاني في عزوفه عن الحصول على السلطة السياسية الذاتية.

وعلى وجه العموم فإن على الحكومة الانتقالية وقوات التحالف أن يقرروا ما إذا كان من الممكن تعميم نموذج النجف على أجزاء أخرى من البلاد، حيث ما تزال المشاكل الإقليمية مشتعلة، وإن لم يكن على نفس المستوى الدرامي.