قضايا أكبر من التجارة بفيتنام والماضي

TT

لا تزال روح الغضب التي توالي تجربة أميركا في فيتنام إفرازها في السياسة والفكر الأميركي ، تتشابه مع الحرب ذاتها ، فيما يبتعد ذلك الإفراز كلية عن الواقعية ، لأن معارك الانتخابات الرئاسية المحمومة تمثل الآن انصرافا عن التحديات الماثلة أميركياً والتي ستغير التاريخ.

والى ذلك ، فمنطقة جنوب شرقي آسيا لم تكن علامة فارقة في الحرب الباردة ، لأن هزيمة أميركا بمقاييس المصطلحات الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية هناك، قد تم امتصاصها وتحويل آثارها ، في أقل من عقد من الزمان ، بعد سقوط سايجون ، فيما كان للنماذج الرأسمالية في تايلاند والفلبين، تأثير ونفوذ أكثر على شيوعيي هانوي مما يمكن أن يقود اليه عكس ذلك التقييم.

ولكن أميركا لا تزال تواجه صعوبة في تكييف مد الأمواج الصغيرة نسبيا ، والتي أرسلها ذلك الصراع على السياسة الدولية والاستراتيجيات. فبعد ثلاثة عقود من الحدث لا تزال فيتنام استعارة وذكريات للاميركيين الذين عاشوا في حقبة ذلك العالم بتطويقاته وتعقيداته. ومع ذلك فلا نزال نحن نتحلى بتلك النظرة المفعمة تجاه الحدث وملحقاته في تعاطينا لقضايانا ، فيما يقتضي الواجب نخبويا أن نقلل من علاقته بالتحديات التي يواجهها المجتمع الأميركي في الداخل والخارج في القرن الحادي والعشرين.

كان ذلك أحد الأثمان التي دفعناها بغرقنا ، وبسهولة ، في وحل الحملة التي أعدها لنا مصممو الحملة من خلال إبراز ، وبالتالي تغيير ، تاريخ جون كيري ، وبتصويره كبطل حرب ومعارض مستأسد لها . وكلا الوصفين يصدق على كيري حتى ببعض القياس الذي يعرفه هو . ومن ثم ، وباعتقاده كحارس للعدل ، فقد مضى لإخراج أكثر الشهادات الصحافية إثارة للتفكير ، في الحلقة الحاسمة من حرب فيتنام ، عبر روايته الجديدة «فصل لم يكتمل ..الحرب.. والجرح الآخر» ، عن تجارب بعد كل هذا الزمن الطويل . وبعد تكريس تساؤلات حول جدواها الآن لدى الذين عايشوها ، متغافلين التسليم بأن من الصعب تحويلها أو إعادة معايشتها ، بل والتهرب منها .

فالكثير قد مر بين الزمنين، والديمقراطيون أخطأوا بمحاولتهم إعادة فتح كتاب فيتنام ولكن لصفحة واحدة فقط منه وهي: مشاهد أقرب الى الفيلم ـ كليب) وهي تصور كيري في الأدغال بملابسه العسكرية ، ومن هنا جاءت وتجيء محاولة الجمهوريين طمس تلك الصفحة كلية .

والى ذلك فمن الصعب تسويق الازدواجية التي يتعامل بها ، أو قل معها ، كيري بتعاطيه المشار اليه مع الشأن الفيتنامي ، ومواكبة ذلك التعاطي مع حالة أمة ، تعيش حالة من عدم التوثق في ما يجب عليه أن تفعله ، مع تضحياتها المتواصلة بحياة أبنائها ، وما يمكن أن تجنيه ، في محاربتها للإرهاب في العراق وأفغانستان.

وعودة لكيري ، فقد كان تحول المواقف لديه ، أي الى الشخص المختلف مع ما يدور، قد جاء في وقت كان الشعب الأميركي قد ابتعد فيه ، وبصورة متزايدة ، عن كل التبريرات المقدمة لإيضاح أسباب إرسال جيش من المجندين إجباريا الى فيتنام . من هنا يظهر ميل قليل من الأميركيين اليوم الى الاعتقاد أن تراجعا أميركيا كليا على هذه الأيام ، من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ، ممكن أو مرغوب فيه ، إذ ليس لذلك أن يحدث ، في وقت تهدد فيه «القاعدة» وحلفاؤها من المجموعات الإرهابية ، بتخطي مدى عدوانهم في 11 سبتمبر ، وفي وقت تقاتل فيه بقايا البعث المهزومة لإستعادة العراق . والشاهد هنا أن النظر لمثل تلك التهديدات في داخل أميركا الآن أصبح كأمر واقعي وحقيقي.

وأحسب أنه، ومن مثل هذه المنطلقات ، يكمن السبب وراء مواصلة جون كيري تقديم وعوده لجهة أن يقطع ويهرب ، وأن يناقش سحب القوات ولكن فقط وفق شروط، فيما يحاول به الديمقراطيون وبنفس القدر تقديم جون كيري المحارب ، وليس جون كيري المعارض ، كشخص يمكن له أن يهزم جورج بوش . وهذا هو نفس السبب الذي يجعل كلا من كيري وبوش مدانين للشعب بتقديم الأجوبة الحقيقية حول كيفية هزيمة إرهاب بقواعد إسلامية، وليس بتقديم أجوبة حول حروب تمت في الماضي .

وخلاصة القول، إن مراوغات جون كيري فشلت في إقناعي أن أداءه تحت النيران في فيتنام ، أقل شرفا ، بشكل ما ، عن خدمات بوش القومية خلال نفس الفترة .

*خدمة مجموعة كتاب واشنطون بوست «خاص بالشرق الاوسط»