فن البدعة السياسية : معارضة لا تعارض

TT

يفاجئنا المحمول المعرفي السياسي ومدلولات اللغة، في أكثر مناسبة تفكير وإعمال للعقل، بحقيقة خداع التعريفات العامة وأوهام المفاهيم المطلقة.

فمقولة إن السياسة «فن الممكن»، بقدر ما تعتمدها الأحزاب الممسكة بزمام الحكم كحجة وكامارة من إمارات الحنكة والتمكن السياسيين، بقدر ما يتحول الاعتقاد في هذه المقولة، بالنسبة للخطاب السياسي المعارض، إلى ثغرة عميقة في العمل السياسي، تصل درجة التشكيك. ذلك أن المطلوب عادة، من الأحزاب المعارضة، في أي مشهد سياسي ومهما كانت ظروفه وعراقيله، هو السعي إلى النضال من أجل الدعوة والمطالبة، وأيضا فرض ما يجب أن يكون، وفضح شعارات الأحزاب الحاكمة وتبريرها الدائم لما هو كائن من أوضاع اقتصادية واجتماعية.

وتمثل هذه النقطة الأساسية أبجدية أولى من أبجديات الفعل السياسي المعارض. بل إنها تندرج في صلب هوية العقلية المعارضة.

وإذا ما تم التفريط في هذا المبدأ الأساسي، فإن الحزب المعارض سيخسر دوره، وسيفقد مصداقيته، وسيزيد، ايضا في اضعاف قاعدته الشعبية، وهو ما سيستفيد منه الحزب الحاكم من جميع الجهات.

ولعل ما يحصل في المشهد السياسي التونسي، خلال هذه الأسابيع، يعيدنا من جديد إلى قراءة دور المعارضة التونسية. وذلك من خلال محاولة استقراء إعلان حركة الديمقراطيين الاشتراكيين (الحزب المعارض الذي يترأسه السيد إسماعيل بولحية)، عن ترشيحها الرئيس زين العابدين بن علي للانتخابات الرئاسية، التي ستجري يوم 24 أكتوبر 2004 المقبل. وذلك ـ حسب ما جاء في بيان الحركة ـ «حتى يواصل الرئيس انجاز مشروع السابع من نوفمبر» علما بأن حركة الديمقراطيين الاشتراكيين سبق أن رشحت الرئيس بن علي، في انتخابات 1994 و 1999 . وقد لا نبالغ إذا قلنا إن مثل هذا الإعلان أفرز حالة من الخيبة لدى بعض النخب التونسية، وشكل صدمة متكررة، ما كان يجب أن تصدر عن حزب معارض عمره ستة وعشرون عاما، ومن المفروض أن يكون له برنامج مستقل ومرشح للانتخابات الرئاسية يمثل البرنامج البديل، خصوصا أن الخيارات السياسية هي، في جوهرها، قناعات ذات صلة بأصحابها، وليست مجرد دليل للطبخ يمكن أن تهتدي به أي سيدة بيت. بمعنى أن التوجهات السياسية تحمل رؤى مختلفة، وأحيانا متضاربة. والذي سيجسد التوجه المختلف لا بد من أن يكون حسب تفكير الحزب المعارض مختلفا أيضا.

من جهة أخرى، يصبح من الصعب التحدث عن حزب معارض، عندما يبرهن عن تبعية واضحة. لذلك فقد أثار إعلان حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، ترشيح الرئيس بن علي للانتخابات الرئاسية، ردود فعل حتى داخل التجمع الدستوري الديمقراطي أي الحزب الحاكم. ومنها الرد الذي نشره أحد اعضاء التجمع، في جريدة «الصباح» التونسية اليومية، خاطب فيه أمين عام حركة الديمقراطيين والاشتراكيين، مبينا له أن من حق أي حزب معارض الدعوة للتصويت لفائدة بن علي في الانتخابات الرئاسية. إلا أنه لا يحق لغير التجمع الدستوري الديمقراطي ترشيح الرئيس بن علي، على أساس أن الترشيح إجراء حزبي لأحكام دستورية وقانونية. ووصف صاحب الرد ما قامت به الحركة بالعملية البهلوانية التي لا تخدم في شيء الديمقراطية التعددية المنشودة.

وتفيد بعض الأخبار بأن الاتحاد الديمقراطي الوحدوي قد يقتدي بمبادرة حركة الديمقراطيين الاشتراكيين في ترشيح بن علي للرئاسة. ويبدو أن لا شيء يمنع ظهور مساندة ثالثة في سبتمبر الجاري، إذ فتح المجلس الدستوري باب الترشح للانتخابات الرئاسية، وحدد موعد غلق الباب يوم 23 الشهر الجاري.

ولكن، كيف يمكن أن نفهم هذه الظاهرة النشاز، التي أصبحت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين مشهورة بها، وهي المحسوبة على أحزاب المعارضة التونسية ؟

إذا ما أردنا التأريخ لهذه الظاهرة، فإنه يمكن إرجاع جزء منها إلى ما يسمى بالميثاق الوطني الذي قامت به الدولة التونسية بعد التغيير، وصادقت عليه كل الأحزاب وأهم المنظمات الأهلية في تونس. وتتمثل الغاية من ذلك الميثاق، وفقا لما هو معلن، في خلق حالة من الوفاق السياسي في تونس، للتمكن من تجسيد الدعوة الواردة في بيان 7 نوفمبر، والمتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان.

ولكن بعض أحزاب المعارضة التونسية توخى لبلوغ هذه الغاية أسلوب فن الممكن. ففهمت تلك الأحزاب الوفاق في ضوء مصالحها الضيقة. وحولت وجهته إلى ما يمكن وصفه، من دون تردد، بالتبعية وبابتكار شكل جديد للتسول السياسي، إذ سعت بعض الأحزاب المعارضة لاهثة للوفاق مع السلطة. وأصبح همها إرضاء السلطة لجني هبات سياسية، تصفها في بياناتها خطأ بالمكاسب السياسية. وعوض أن تنتبه الأحزاب المعارضة إلى كيفية الاستفادة من جدوى الوفاق فيما بينها، اختارت الصراع، وفضل البعض منها تحقيق الوفاق مع السلطة لا مع أصحاب الدرب في المعارضة، ونحت البديل وإذكاء الحس السياسي المعارض.

وإذا ما أنصتنا إلى إعلان بعض الأطراف لنهاية الوفاق، فإن من يراقب المشهد السياسي التونسي يلاحظ أن هناك أربعة أحزاب، على الأقل، ما زالت متشبثة به، وتعمل ـ وهنا المشكلة ـ داخل معادلة التحالف اللامشروط مع السلطة. وهكذا يصبح إعلان حركة الديمقراطيين الاشتراكيين ترشيح بن علي إلى الرئاسة، وللمرة الثالثة على التوالي، أمر ليس غريبا. وهو يدل على قراءة للأوضاع السياسية، ترى أن الواقع الحالي الذي تعيشه تونس، إضافة إلى اعتبار أن الشعب لا يكترث بالمعارضة وهيمنة الحزب الحاكم، لا يسمح حسب قراءة بعض أحزاب المعارضة، سوى بالانضواء تحت جناح السلطة، وذلك كي تمكنها من المشاركة في البرلمان أو في المجلس الاقتصادي والاجتماعي.

وهنا تحديدا نسجل محدودية طموح مثل هذا التفكير الذي يدعي المعارضة، في حين أنه يرضى بالدون السياسي. رغم أن نفس الواقع الذي تتعلل به بعض الأحزاب المعارضة، كان بالإمكان أن يقود إلى قراءة أخرى وإلى تعاطٍ سياسي معارض مختلف، خاصة أن الواقع الدولي الآن لا يسمح بأي تراجع، لا في المكتسبات ولا في الهبات. بل إن أي مشهد سياسي مهما كان رافضا للديمقراطية يسعى إلى التجمل بالأحزاب المعارضة، أي أن الفرصة السياسية الدولية مواتية جدا للركوب، ولتسجيل خطوات حقيقية، لا اختيار التمسك بالتلابيب. وعندما سألنا حركة الديمقراطيين الاشتراكيين عن تبريرها لخيار ترشيح بن علي للانتخابات الرئاسية المقبلة كان الجواب بأن الخيار يندرج ضمن المصلحة العامة لتونس، وضمن تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية، إضافة إلى أن الحركة تعتبر الرئيس بن علي «المؤهل الحالي» لمواصلة مسيرة الإصلاح.

إن مثل هذه الإجابة يفتح أمامنا سيلا جارفا من الأسئلة التي تفيد التعجب. فالمصلحة الوطنية، التي تتحدث عنها الحركة نظن أنها تقتضي، ايضا، الاضطلاع بدور المعارضة، والسعي إلى الاستقلالية، قصد تحقيق تعددية فعلية، وإكساب الواقع السياسي التونسي دينامية حقيقية تقود الوطن إلى إرساء تقاليد سياسية. إن الوطن يزدهر وينمو ويتطور بتحمل المسؤولية مهما كانت صعبة، وليس بالانشغال بالصراعات الضيقة المادية المنطلقات، والتي لا ينتج عنها غير الضعف السياسي العام. ثم، هل يمكن لسلوك سياسي «معارض» تابع، أن يسهم في إنتاج ما يشاع عن الطفرة السياسية؟ هل بوسع التابع أن ينتقد، عمليا وفعليا وبشكل حقيقي، التابع له ؟ أظن أن تواضع الواقع السياسي التونسي أكبر بكثير من أن تتحمل السلطة وحدها أوضاعه، خصوصا عندما يبلغ الفعل السياسي المعارض درجة من الانزلاق الخطير.

[email protected]