الإرهاب والاطفال.. «بروستو تاك»

TT

ملامح الرعب التي ارتسمت على وجه الطفلة، التي كان يجرجرها أحد الجنود الذين هرعوا لإنقاذ الرهائن المختطفين في إحدى مدارس أوسيتيا الشمالية، تنطق بعمق المأساة ومدى الهوان الذي انحدرت إليه العلاقات الانسانية. وإذا كانت مأساة اختطاف الرهائن في احدى مدارس الأطفال، وقبلها تفجير الطائرات، استمرارا لتقليد اختطاف رهائن من مستشفى للولادة، تكشف عن قصور أمني وسياسي شديد الوطأة، فإنها تقول عمليا بافتقار الكثيرين ممن سبق ووقفوا إلى جانب المقاتلين الشيشان، إلى الحس الانساني في ظل استمرار سياسات المعايير المزدوجة، والسقوط في شرك النفاق السياسي. فما يجري اليوم في روسيا، التي قال وزير دفاعها سيرجي ايفانوف، ان الارهاب الدولي اعلن الحرب ضدها، لا يمكن تناوله إلا في سياق الهمجية التي تورطت يوما في مباركتها بلدان تقول، اليوم، بأنها ترفع لواء مكافحة الارهاب، وتعتبر روسيا شريكة في الحرب عليه. وما دامت يوما قد قالت ان من ليس معنا فهو ضدنا، فإنه يصبح من الطبيعي ان تكون في مقدمة من صار مدعوا إلى مراجعة الذات، والعودة إلى صراط العقل بعيدا عن المتاجرة بالشعارات السياسية، جنبا إلى جنب مع أولئك الذين تصوروا يوما، ان القوة وحدها سبيل مناسب للحد من طموحات البشر.

الجاني والمجنى عليه، يبدوان، اليوم، وقد سقطا في ربقة المعالجة الخاطئة لقضايا تتعدى حدودها خطوط الخرائط الجغرافية، ما يجعلها قضية عالمية لن تفلح قوة بعينها في الانفراد بحلول ذاتية لها. ولعل هذه المعالجة، التي تفتقر إلى العدل أساسا لتقدير جوانبها، يمكن ان تقف في مقدمة أسباب الخلط الذي يميز الكثير من تقديرات الساسة، تجاه تفسير عمليات العنف بكافة أطيافها. وقد جاءت القضية الشيشانية لتميط اللثام عن الكثير من الشعارات والتفسيرات الزائفة، حول حق تقرير المصير وبقية حقوق الانسان. فليس من الممكن تناول القضية الشيشانية بعيدا عن كل محاولات القوى الخارجية التي رأت فيها حقا يراد به باطل. ولعلنا نذكر محاولات الخارج التي لم تكن تستهدف المساعدة في ايجاد حلول مقبولة تتسق مع مصالح الدولة المتعددة القوميات والأجناس والأعراق، بقدر ما كانت تستهدف تصفية حسابات قديمة تبتعد، في جوهرها، عن صحيح الدين وأحكام التاريخ وحقائق الجغرافيا.

غير اننا وإن كنا اليوم نشير إلى مثل هذه الظاهرة بالغة الغرابة، لا يمكن ان نغفل، وبطبيعة الحال، ذلك القصور الامني والسياسي الذي تتسم به سبل معالجة الأزمة الشيشانية. ما يجعلنا نمضي إلى ما هو أبعد، حين نقول ان الكرملين قد لا يكون ملما بكافة ابعاد الصورة، وهو خطأ قد تتسق تقديراته في القول العربي ان «المصيبة تبدو اعظم»!.

وتزيد من وطأة هذه التقديرات، ان صغار الاطفال والبسطاء من ابناء الشعب الروسي، بكل طوائفه الدينية والقومية، يقفون اليوم في صدارة المدعوين لسداد فواتير أخطاء الساسة والعسكريين، بل وعدد من الصحافيين الذين يعملون في بلاط سلطات تقف متقدمة عن بلاط السلطة الرابعة، بل وثمة شواهد تقول ان الرئيس فلاديمير بوتين، صار اليوم أحد أبرز المطالبين بتسديد ثمن أخطاء معاونيه ومستشاريه ممن سبق وقال بحقهم، في أعقاب إحدى زياراته الاخيرة للشيشان، انه لم يكن يتصور ان الدمار الذي لحق بالعاصمة جروزني، بلغ مثل ذلك الحد، فيما سارع بإصدار أوامره إلى عدد من وزرائه بسرعة السفر إلى هناك، والبدء فورا، في عملية اعادة الاعمار. على ان هناك أيضا من يشير بإصبع الاتهام إلى بعض القوى المناوئة التي تحاول تصفية حساباتها مع بوتين، من خلال إمداد المتطرفين من المقاتلين بالدعم المالي والعسكري، بل والإعلامي.

ونعود بالذاكرة إلى ما سبق وقاله في أحد أحاديثه الصحافية معنا، الرئيس السابق أحمد قادروف، حول الأموال التي كان شاميل باسايف يتقاضاها من المليونير اليهودي بوريس بيريسوفسكي، الهارب اليوم إلى لندن. لقاء ماذا؟ قال قادروف إن باسايف رد على ذلك آنذاك بقوله: «بروستو تاك»، أي مقابل لا شيء! والخوف كل الخوف، ان ينتهي كل ما جرى ويجري بحق الاطفال، «بروستو تاك».

* مراسل «الشرق الأوسط»

في موسكو