رماد الملكة

TT

في الطريق الينا سيرة جديدة عن حياة الليدي ايستر ستانهوب تعدها الكاتبة لورنا جيب التي زارت المناطق التي عاشت فيها تلك المستشرقة الغامضة في سورية ولبنان وشهدت أوائل هذا الصيف عملية ذر رمادها على آخر بيت عاشت فيه فوق الهضاب المطلة على صيدا بعد 165 سنة على وفاة تلك الشقراء الانجليزية التي فتنت بدو الصحراء السورية.

وقد ادعت الليدي في أوراقها ان قبائل تدمر توجتها ملكة على الصحراء وأقامت لها موكبا حافلا يوم التتويج عبرت خلاله والتاج فوق رأسها من تحت قوس النصر الذي نصبته المدينة للملكة زنوبيا بعد عودتها منتصرة من غزواتها في الديار المصرية.

وربما يكون هذا الزعم صحيحا. فالبدو في سورية وغيرها كرماء في منح الألقاب خصوصا لمن يجزل لهم في العطايا، والمشكلة ليست هنا بل في ان الليدي صدقت فعلا أنها ملكتنا، فقد ماتت عام 1839 وهي تدعو السوريين واللبنانيين باسم (شعبي).

ويقال ان هذه السيدة الطموحة ذهبت الى الشرق مثل كل من أتوه في ذلك الوقت وفي ذهنها احلام كثيرة منها ان تقيم مملكة شرقية عاصمتها القدس. فهي لم تكن بعيدة عن السياسة التي خبرت كواليسها عن قرب أثناء عملها مساعدة لخالها (وليم بيت) الذي كان رئيسا لوزراء بريطانيا أثناء الحروب البونابرتية.

لامارتين الذي زارها في بيتها بدير مار الياس وكتب عنها في «رحلة الى الشرق» لم يركز على طموحها السياسي انما قدم صورة روحانية لسيدة غريبة مولعة بعلم النجوم الشرقي حدثته تحت ضوء القمر في قرية جون عن علاقة مصائر البشر بحركة الافلاك.

آخرون من الأتراك والعرب الذين قابلتهم في استانبول ودمشق لم يروا فيها غير صورة امرأة مجنونة أو غريبة الأطوار في احسن الاحوال، وبعضهم عزا غرابة اطوارها لجنون العظمة. فقد كان يسعدها ان يقوم الناس لدى مرورها في الأسواق وكانت دوما تعقد أواصر الصلة وتوثقها مع من هم في مراكز النفوذ، وهذا ذكاء انتهازي او لنقل جزء من غريزة الدفاع عن الذات في محيط غريب. فمن تعيش بين البدو والأتراك وتمر في مدينة مثل عكا قطع أحمد باشا الجزار آذان ربع سكانها وجدع أنوف ثلثهم، لابد ان تستيقظ فيها كل غرائز الدفاع عن الذات في تلك المدن المتوحشة.

ولعل الجنون جاء في المرحلة الأخيرة بعد ان نجت من الطاعون لتصاب بالسل. وتشير كاتبة السيرة الجديدة ان جنونها أكثر ما كان يظهر حين كانوا يذكرون أمامها اسم بلدها الأصلي انجلترا وهذه حقيقة أكدها حفيدها (وليم ستانهوب) الذي قام بذر رمادها في قرية جون اللبنانية أوائل الصيف الحالي. فقد عارض مع العائلة عودة رفاتها الى مسقط رأسها الذي كرهته ورفضت العودة اليه حية. فلماذا اجبارها على ذلك وهي رميم.

وكان أشاوس الحرب الأهلية اللبنانية قد خربوا قبر المستشرقة في ثمانينات القرن الماضي فتدخل السفير البريطاني ونقل عظامها الى حديقة منزله المطل على بيروت. فلما باعت الحكومة الانجليزية البيت واحتفظت بالعظام خيرت العائلة بين نقل الرفاة الى (شيفيننغ) في منطقة كنت حيث ولدت وبين احراق العظام وذر رماد الملكة فوق آخر بيت أقامت فيه وأحبته في شرقها الأسطوري. فاختار الستانهوبيون دون تردد الحل الثاني.

لقد قيل ان ضبطها في قضية شذوذ هو الذي دفعها للهجرة نهائيا عن البلد المحافظ، والشيء ذاته قيل عن اللورد بايرون وأوسكار وايلد. فانجلترا بلد يعشق الفضائح ويستثمرها في زيادة الشهرة على عكس شرقنا السعيد الذي يغطيها أو يعطيها أسماء أخرى. فهو ينكر الموبقات كلها علنيا ويدينها ويبيح كل شيء في السر والخفاء، ولهذه الصفات بالذات كان معظم من أتانا بحجة الاستشراق من الرجال والنساء من أصحاب النزعات المثلية.

[email protected]