.. وكيف تسبب بـ «تدويل» الحالة الإسلامية؟

TT

الابتعاد الزمني عن 11 سبتمبر التاريخي, يهيئ للكثيرين رؤيا أكثر اتزانا، ويعيد أوهاما كبرى ولدت في لحظة الحدث إلى حجمها الطبيعي. ما الجديد الذي يمكن تقديمه مع كثافة ما يطرح حول هذا الفاصل الزمني, بعد أن تم تدويل الحالة الإسلامية، على يد أبناء الحركات الإسلامية، كرد فعل غير صحي في التفاعل مع الواقع الحضاري والسياسي لعالم اليوم؟

لقد تغير الفضاء العالمي الذي كان يتحرك فيه الفكر الإسلامي والخطاب الديني بمختلف اتجاهاته, وأصبح فجأة أمام معضلات كبرى في أعماق ثقافته, يتساءل عنها العالم ويريد أن يسمع إجابات متماسكة، غير مشوشة بممارسات وخطابات تصدر من اتجاهات متنوعة في عالمنا العربي والإسلامي, ليطمئن إلى إمكانية تعايش هذا الفكر مع ثقافة العصر. ومع القدرة على صياغة إجابات تحسن الصورة، وتظهر الوجه الحقيقي للثقافة الإسلامية, لتخفف شيئا من القبح الذي شاهده العالم على يد بعض التيارات التي تصدر خطابها باسم الاسلام والجهاد, إلا أن ضخامة الحدث وحجم الكارثة أسهما في إيجاد صراع ذهني ونفسي، ما بين روح الانتقام للبحث عن عزة مفقودة، والمنطق العقلاني والأخلاقي في التعبير عن موقف حكيم تجاه هذا الحدث.

لقد كان الارتباك والتردد عند كثير من الحركات والجماهير الإسلامية في إدانة مثل هذا النوع من العنف، صدمة أخرى لكثير من الغربيين, وعبر بعضهم عن هذه المشاعر, حتى ممن كانوا يدافعون عن قضايانا وثقافتنا في وسط مجتمعاتهم. وقد خلطت المواقف المتعددة التي ظهرت بصيغ، الصواب بالخطأ، لتحاول ممارسة تكتيك خطابي، يصعب نجاحه في مواجهة مفاهيم حساسة كالإرهاب.

يشبه البعض موقف عدد من أطياف هذه الحركات والتيارات بالتعبير الشهير الذي وصفه أحد الكتاب الفرنسيين في صحيفة «لوموند» حين قال: «إن ضحايا الهجمات يوم 11 سبتمبر أبرياء، لكن أمريكا ليست بريئة».

وبعيدا عن تفاصيل تلك المواقف التاريخية، التي سجلت المشاعر التلقائية في لحظة حدوثها، دون تمثيل وتصنع، فإنه يمكن القول إن النتيجة على أرض الواقع لم تكن في صالح الحركات الإسلامية, حيث سرعت عملية سبتمبر حالة الصدام مع المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة, بعد أن كانت في صدام مع كثير من الأنظمة العربية خلال عقود مضت, وأصبحت تحت درجة عالية من الرقابة والشك في كل تحركاتها.

ولا يمكن مقارنة تأثير هذه المواجهة على مستقبل هذه الحركات, بمواجهة الأنظمة العربية، حيث يتميز الفعل الغربي بالنفس الطويل والتخطيط الاستراتيجي الذي لا تظهر آثاره إلا بعد زمن طويل. أما الصدام في المنطقة العربية منذ خمسينات القرن الماضي فقد كان عشوائيا تغلب عليه القبضة الأمنية, لهذا استمرت نجاحات الحركات الإسلامية وزاد تعاطف الجماهير معها إضافة إلى وجود قواعد ومناطق آمنة يمكن اللجوء اليها في أوروبا وأمريكا في السابق لإدارة المعارك من الخارج, والذي لن يكون متاحا الآن, ويتذكر أي مراقب مثلا كيف كانت واشنطن تعبر عن عدم رضائها عن مصر مثلا قبل سبتمبر في مواجهة الإرهاب. معركة هذه الحركات ما زالت تحتفظ بكثير من خصائصها على الأرض العربية في العقود الماضية، لكن الجديد الذي أحدثه عمل سبتمبر هو فقدان هذه الحركات الدعم الخارجي والمهجر الآمن، الذي يتيح لها التحرك والتخطيط وبناء أجيال من النخب والقيادات.

هذا الحدث ربما يكون حسم كثيرا من حالات التردد في الغرب لمواجهة المد الإسلامي بواسطة الأنشطة التي تقدمها الحركات والمنظمات الإسلامية, والتعامل بحذر شديد مع كل ما يظهر من خطاب ونشاط ديني واجتماعي وإعلامي, وبدأت الحركات الإسلامية تخسر الآفاق الرحبة التي ساهمت في اتساع مد الصحوة الإسلامية في العالم منذ منتصف القرن الماضي, وقد وجدت شيئا من الدعم في الخمسينات والستينات لمواجهة المد القومي والناصري, وفي الثمانينات لمواجهة الشيوعية عبر الأرض الأفغانية, وبعد انتهاء مخاطر تلك الأيديولوجيات، فمن الواضح أن مرحلة التسعينات سجلت حالة تردد، في كيفية التعامل مع هذه الحركات من وجهة النظر الغربية والأمريكية, وخاصة الفضاء الأفغاني الذي أصبح مسرحا لتجنيد وجذب الشباب الإسلامي من كل مكان. ومع أنه لا يمكن إغفال دور التغاضي الغربي عن هذه الحركات منذ منتصف القرن الماضي، مما أتاح لها فرصة نجاح كبيرة في الوطن العربي, إلا أن المتابع يدرك أنها كانت تراقب بحذر, وتصل أحيانا للحث على القضاء عليها ومواجهتها من قبل أطراف غربية وأمريكية, فلم يكن هذا التسامح معها مفتوحا, وقد كانت الثورة الإيرانية الخمينية من أكبر المنعطفات التي قرعت جرس الإنذار مبكرا في الدوائر الغربية, وأسهمت في ظهور أصوات تحذر من الحركات الإسلامية. إلا أن الجانب المذهبي أسهم في قراءات متنوعة في الشرق والغرب وأدى إلى إضعاف حجم المواجهة، لأن الظروف الدولية في ذلك الوقت أحلت المواجهة مع الحركات الإسلامية من المذهب الآخر.

إذا ليس الجديد هو ظهور أصوات تحذر هنا وهناك, فقد حذر مثلا الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون في كتابه الشهير «نصر بلا حرب»، ودعا الحكومات العربية وإسرائيل لمواجهة خطر الأصولية فيقول: «وفي الشرق الأوسط نرى صراع العرب ضد اليهود يتطور بين الأصولية الإسلامية من جانب وإسرائيل والدول العربية من جانب آخر, وما لم تتغلب هذه الأمم على خلافاتها وتعترف بأنها تواجه تهديدا أشد خطرا بكثير من التهديد الإيراني, ربما سيظل الشرق الأوسط الأكثر احتمالا للانفجار في العالم كله..»، ومثل هذا الصوت كان يتردد بكثرة قبل سبتمبر بسنوات طويلة, لكنه لم يتفاعل عمليا ويدخل في صلب القرار السياسي الاستراتيجي عند الدول الغربية وأمريكا إلا بعد هذا الحدث. ومن الملاحظ أن هذه الحركات كانت تستفيد من إبراز هذه الأصوات المحرضة في العقود الماضية، والحرص على ترجمتها، من أجل حشد أنصار جدد وكسب تعاطف الجماهير.

مرحلة ما بعد سبتمبر دشنت استراتيجية جديدة وأصبحت صيحات التحذير في الغرب مسموعة, وهذه المواجهة قد لا تكون مجرد قبضة أمنية, وإنما الدخول في عدة مجالات حتى في فضاء حرب الأفكار، وقد أشار بعض المسؤولين الغربيين إشارات توضح هذه الاستراتيجية, ويشير لهذه الرؤية الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في مقاله المنشور في نيويورك تايمز في 27 نوفمبر 2001، حيث يقول «إذا كان تاريخ 11/9 في الحقيقة بداية الحرب العالمية الثالثة، فعلينا أن نفهم ما تقصده هذه الحرب.. علينا ألا نكافح لاستئصال «الإرهاب».. الإرهاب فقط كأداة.. نحن نحارب لهزيمة الأيديولوجيا: التدين الديكتاتوري، والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة كانتا صراعاً لهزيمة الحزب العلماني المتطرف ـ النازية والشيوعية ـ أما الحرب العالمية الثالثة (الحالية) فهي معركة ضدّ الحزب الديني المتطرف الذي يفرض على العالم سلطة إيمانية تنفي الآخرين.. إنها «البنلادنية» (نسبة لـ بن لادن)، لكنها على خلاف النازية، فحكم الحزب الديني لا يمكن أن يقاتَل بالجيوش وحدها، بل يجب أن يُقاتل في المدارس، والمساجد، والكنائس، والمعابد، ولا يمكن أن يهزم بدون مساعدة الأئمّة والأحبار والكهنة!!».

إزاء هذا المتغير الكبير، تواجه الحركات الإسلامية أزمة حقيقية, وأصبحت أمام خيارات صعبة, ومهمتين متناقضتين, الدفاع عن نفسها أمام هذه الهجمات الإعلامية في الغرب والشرق، والنقد الموجه لها, وأيضا شعورها بالحاجة إلى شيء من المراجعة ونقد الذات في الوقت نفسه..! ويشير تاريخ كثير من هذه الحركات إلى أنها تفضل دائما تأجيل النقد الذاتي الحقيقي، لما يسببه من انشقاقات واختلافات في صفوفها وتنظيماتها، لمواجهة العدو والخصم الخارجي، مع أن العدو الداخلي المتمثل في بعض الأفكار الخاطئة التي تعتنقها، قد يكون أشد فتكا من قوى كبرى في عالم اليوم.

* كاتب سعودي