لا خلاص إلا بالحب .. هذا هو الدرس

TT

الصور لا تنمحي لا من عيوننا ولا من ذاكرتنا:

طائرات تضرب الابراج، ابراج تتهاوى كالورق المحترق، عنفوان الولايات المتحدة يناخ الى التراب ويلتصق بالارض كما تُناخ الجمال... الذهول لا قياس له، الصدمة لا تقاس.

استيقظ العالم على ان هناك فكراً مبنياً على العنف المقدس، قادراً على تقديم الضحايا والقرابين على المذابح العالية. الارهابيون هنا كهان ينظِّرون، يقرأون كتب الله كما يريدون، ويقررون عن الله. لقد نصّبوا انفسهم آلهة جدداً يحللون، يحرّمون، يكفّرون ويدعون الى الجهاد. وضعوا الحدود للعالم والدنيا والناس. فهنا دار السلام وهناك دار الحرب والترويع والارهاب والعنف والدم والوحشية والبربرية والجريمة. وكل هذا مغروز في عقدهم الجنسية والنفسية. استيقظ العالم على الوجه البشع من خلط الفكر الديني بالفكر السياسي، وعن العنف المقدس الغارق بدم الابرياء والضحايا، وأقام بن لادن واشباهه، انفسهم حراساً لملكوت السماء وهم خارجون من ظلمة وترابية الزواحف في المغائر والغرائز وليس في شفافية اهل السماء القاطنين هفافية الرقة والجمال والبهاء. هكذا أطل وجه بن لادن، واصبح كأنه وجه جميع المسلمين في العالم، وصبغ الاسلام بأبشع صورة وبأبشع مظهر لا يقبله الا العقل الآتي من الظلمة الفكرية والعصبية.

ما كان يمكن ان تقدم للعالم صورة تدميرية للاسلام والمسلمين يستفيد منها اعداء الاسلام، اكثر قساوة من هذه الصورة، التي ليست هي حقيقة الاسلام الرحب القائم على الحوار والتراحم والتسامح والتعارف. لكن المشكلة كانت في صمت الفكر الديني المتواطئ او القابل بخطاب ديني يتهم الاخر وكل الناس المؤمنين بالعقل والنقد ومسيرة التاريخ والتغييرات اللغوية والاقتصادية وبالتحولات الاقتصادية والاجتماعية، يتهمونهم بالكفر والشرك والفسق والفجور. هذا الكلام ـ الضدّي الاتهامي، لا يولّد الا الحقد ورغبة العنف ضد اناس من غير تفكير او من غير دين أو لا دين لهم. هؤلاء المختلفون فكرياً ودينياً اضحوا ضحايا في ديار الحرب. ويجب وضع حد السيف عليهم والقتال ضدهم لربح السماء وما فيها.

هذا الفكر الخاطئ دينياً في قراءته لنصوص القرآن، هو الذي برر وسمح وقرر هذا العنف، الذي صبغ كل الاسلام والمسلمين بهذه البربرية الاصولية التي لا يقبل بها لا الدين ولا العقل ولا الضمير ولا شرائع الارض والسماء. انه العنف المقدس بعماء ذهني وحقد في القلب وكبت شهوات الجسد.

فانتفض عقلاء الاسلام والمسلمون الطيبون، يقولون ان الاسلام ليس الترويع والارهاب وقتل الابرياء وامتهان كرامة المرأة، لا بل هو الحب والرحمة والمشاركة والحنان. وعبّروا عن اسفهم وشجبهم لما حدث، وتضامنوا مع اهل الضحايا، وصلوا مع من صلى لاجل ارواحهم.

وانتفضت الكنائس البروتستنتية والارثوذكسية، وخاصة قداسة البابا يدعو لعدم الانجراف الى البغض والحقد وردة الفعل وتدمير ما في الاسلام من قيم تقول بالرحمة والحنان والتعارف وقبول حق الافتراق. وأدرك المسلمون دور الكنيسة الكاثوليكية، وعلى رأسها قداسة الحبر الاعظم في الوقوف الى جانبهم، كما وقف سابقاً الى جانب القضية الفلسطينية والقدس وقضية العراق وقضية لبنان فأصغوا اليه. وتعاونت الدوائر الفاتيكانية لكي يبقى حوار الاديان وحوار الحضارات، هو المدخل الى الايام الآتية وليس التطهير العرقي والديني والفكري الذي هو باب الدخول الى نهايات التاريخ وصِدام الحضارات ونهاية التلاقي بين الناس، ليطل تنين البربريات الجديدة القائمة على العرق والدين واللون والجنس ليصبح العالم على مثال الدولة الاسرائيلية لا مكان لأحد فيها من غير أولادها. الله اختار البشرية ولم يختر شعباً واحداً. الله أعطى الارض لجميع الناس وليس لجماعة واحدة. الله ينتظرنا جميعاً في السماء وليس فقط شعباً واحداً يصل الى وجهه.

في 11 سبتمبر ـ ايلول، التنين الشبيه بتنين الرؤيا فتح شدقيه ليأكل ابن الانسان الذي تلده المرأة. التنين، تنين البغض والحقد والتشفي والجنون قيّده ملاك الرب. رماه في الهاوية لأن الحب المزروع في قلوب ابناء الله وقف بوجه النار الآكلة بغضاً وجنوناً والنابعة من قلب شيطان مريع لا يوقفه ولا تطرده الا الصلاة والحب والغفران والمصالحة.

حقاً هدمت ابراج الاقتصاد والكبرياء والحقد والنقمة، «ابراج بابل الجديدة»، وقامت ابراج الحب والحوار والتعاطف والتراحم والمغفرة والصلاة والوقوف حقاً بوجه حضارة الموت والارهاب والرجعيات الدينية، والوقوف مع حقوق الانسان والحرية. وحده الحب يخلص. وحدها المسامحة تبني. فإما ان تسمح المسيحية لأصوليات جديدة ان تولد بربريات جديدة. وإما ان تقول لا ليس هذا ما قاله السيد المسيح بل قال أحبوا اعداءكم. باركوا لاعنيكم. وان احببتم من يحبكم فأي اجر لكم. هذا ما صرخت به المسيحية ودعت اليه وعاشته في تلك اللحظات الاليمة. كانت تبكي وتصلي وتغفر وتدعو الاسلام ليبكي ويشجب ويصلي. وأيضا، إما ان يسمح الاسلام للاصوليات ان تتنامى وتكبر، والظلاميات ان تكون كتب الايام الآتية المليئة بالعتم والجهل والهذيان الطفولي الديني. وإما ان يحكم العقل والنقد والنطق، وتقرأ اليوم، بلغة اليوم، الرسالة الحقة للاسلام.

المطلوب منا اليوم فكر جديد يوقف جنون الذين ينصبون ذاتهم مكان الله ليحرّموا ويشرّعوا ما ليس لهم علم به. انهم جنود الرعب والترويع الجديد يجب إنزالهم ومنعهم من الظهور على وسائل الاعلام، وتقديم فكر ديني اسلامي منور متطور لبناء حضارة ندرك فيها ان اي تدمير للآخر هو تدمير للذات. والله لم يعطنا رسالة لنفعل ذلك بل اوهام عقلنا القصير الخاطئ. اوقفوا صورة بن لادن وخطابه على وسائل الاعلام، فهذا اكبر تدمير لصورة وحقيقة الاسلام. قبول الآخر في جمال افتراقه عنا، هو المشهد المقبل للانسانية الجديدة المولودة من رحم الفاجعة والموت وايام الحروب التي لم تنته بعد. لقاؤنا بالآخر المفترق هو فردوسنا الموعود، بعد ان خرجنا بخطيئة الدم كما فعل قايين من فردوس اخوتنا ومحبتنا وبناء عالم مع الآخرين.

الحب هو طريق الايام الآتية المزينة بالحوار. ويجب أن يقوم اليوم علماء جدد لا يقدسون ما لا يقدس، ولا يدنسون ما هو مقدس، بل يضعونه في دائرة الاجلال والاحترام والتنزيه. ادخلوا عصركم يا فقهاء ولا تجعلوا الدين متحفاً متحجراً. اليوم هو يوم دعوتنا جميعاً، اسلاماً ومسيحيين ويهوداً، لحوار الحضارات بالمحبة والحق والاحترام والحرية والرقة والحنان ليبقى القربان الحقيقي بين ايدينا هو شبكة ايدينا على المحبة والمصالحة والحرية وكرامة الشخص البشري. الارض لنا جميعاً.. السماء لنا جميعاً.. الناس اخوة لنا جميعاً.. والاعداء هم اخوتنا في المحبة والمغفرة.

يوم دمر قايين اخاه هابيل دمر نفسه والعالم. 11 سبتمبر ـ ايلول لم ندمر فيه الابراج والآخرين، بل دمرنا أنفسنا وصورتنا وحملنا خطيئة لا تزول الا بالندامة وطلب المغفرة وقيامة حضارة المحبة والمصالحة وتنقية الذاكرة.

وحده الجمال سينقذ العالم، فأزيلوا صورة بن لادن البشعة، لقد أساءت الى الاسلام والمسلمين، أكثر ما أساءت آلاف الكتابات الصهيونية. نقول لاخوتنا المسلمين نحن اهل الكتاب. ونحن نحبكم ولا تليق بنا مسيحيتنا، اذا لم نتقاسم معكم جمال الحياة وجمال وجه الله. وسنحول 11 سبتمبر ـ ايلول الى قيامة الرجاء بإنسانية جديدة.

* رجل دين لبناني ورئيس دائرة الاعلام في كنائس الشرق الأوسط