شيعة العراق : بين التنديد المعلن.. والترحيب المخفي بـ 11 سبتمبر

TT

تفاوتت المشاعر تجاه ضربات طائرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي أطاحت برؤوس ناطحات السحاب، بين مندهشٍ من فُجَاءة الحدث وهوله، وخائف من ردة فعل أمريكية عنيفة، وشامتٍ بالقوة الهائلة التي اُخترقت بهذه السهولة. فطالبان نددت على لسان سفيرها بباكستان سالم ملا ضعيف، ونفت حماس ولم تندد، مع الإشارة إلى عدم رغبتها في نقل المعركة إلى خارج فلسطين، بينما بادر ياسر عرفات إلى النفي والتنديد وتقديم التعازي، وسارعت الجبهة الديمقراطية، التي ورد اسمها على لسان مجهول ادعى تبني العملية، إلى نفي التهمة وقالت ما قالته حماس.

ولم يفت أسرة أسامة بن لادن التنديد بالحدث والبراءة من ابنها المتهم الأول. كذلك نفى النظامان العراقي والإيراني أن تكون لهما يد في الأمر. كل هذه الأطراف تشترك في مشاعر الخوف من العاقبة، فالكونغرس الأمريكي اتخذ قرار تخويل بوش باستخدام القوة ، وإعلان الحرب الشعواء على أي يد دبرتها وأدارتها أو أخذت علماً بها.

وإذا كانت ردود الفعل الدولية والعربية واضحة المعالم، بين مندد ونافٍ، فالأمر بالنسبة للمعارضة العراقية والشيعية على وجه الخصوص مختلف تماماً، ففي الوقت الذي أدان فيه وجهاء شيعة العراق الضربات، ونفوا أن يكون مرتكبوها من الشهداء الفائزين بالجنة، وأبدوا امتعاضهم الصريح مما سيأتي على الإسلام والمسلمين بالمتاعب، فإن هناك ما تشترك فيه المعارضة العراقية، مع اختلاف ردة الفعل ، بل ويشترك فيه كل الكارهين للنظام العراقي والتواقين إلى سقوطه، وهو الترحيب الخفي بالضربات، والتمني أن تكون للنظام يد فيها، فبداية نهاية النظام هو الحادي عشر من سبتمبر وإن كانت يده بعيدة عنها.

بالنسبة للشيعة عموماً، علينا التمييز بين موقف إيراني رسمي، اعتبر الحدث إسقاطا للهيبة الأمريكية، وتحجيم الشيطان الأكبر، حسب تسمية الإعلام الإيراني لأمريكا، لكن لم تخف المخاوف من إلصاق التهمة بالنظام الإيراني عن طريق فبركة اعتراف أو تقرير مخابراتي. وإيران التي تحدثت كثيراً عن ضرورة إسقاط النظام العراقي، ورد على لسان أحد آياتها، وأمين عام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب بإيران في يناير 2003، متحدثاً حول تبعات الحادي عشر سبتمبر والتحضير الأمريكي للحرب على بغداد ما نصه: «لكي تحقق أهدافها الاستراتيجية المرسومة من قبل، وتبسط نفوذها على العالم، وبالتالي تحقق ما كانت تأمله في العولمة، التي يمكن تلخيصها بالأمركة للعلاقات السياسية والثقافية». لخصت هذه الكلمات الموقف الإيراني من إسقاط النظام العراقي، فبعد أن وضعت الحرب العراقية الإيرانية أوزارها ، صرفت إيران النظر عن الشرط الذي شرطه آية الله الخميني لوقف الحرب، لأنه أمن لها من أي نظام آخر وإن كان شيعياً، فداخل الشيعية العراقيين وأحزابهم ظهرت أصوات عالية ، في التمييز بين الموقف الوطني العراقي ، وبين الموقف العراقي التابع للسياسة الإيرانية.

وشعرت المعارضة العراقية الشيعية، بما فيها الباقية مع الهوى الإيراني، بالضيق والخيبة من تطبيع العلاقات مع بغداد بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني إثر غزو الكويت، ولم تكن إيران إلى جانب اشتراك الشيعة في مؤتمر بيروت (1991). تُذكر هنا موازاة التطبيع مع عدم الثقة بين الجانبين، فقد ورد في وسائل الإعلام عتب للقيادة العراقية من قيادة إيران ، بسبب مستهل رسالة جوابية إلى صدام حسين، التي تقول «سلام على مَنْ اتبع الهدى»، وهي عبارة عادة ما تستهل بها الرسائل التي تبعث إلى مَنْ يُشك بإيمانه أو بإسلامه! وفعلاً ظلت العلاقة بهذه الحدود، مع حرص إيراني على عدم إسقاط النظام فهو آمن لها من أي نظام آخر. وبعد مهادنة النظام العراقي أخذت القيادة الإيرانية تضغط على العراقيين، شخصيات وأحزاباً، باتجاه سياستها الجديدة، فلم يبق هناك دافع إيراني للمساعدة في إسقاط النظام. وبعد الحادي عشر من سبتمبر حدث الافتراق الكبير بين القيادة الشيعية الإيرانية والمعارضة الشيعية العراقية، التي لا تريد تضييع الفرصة. فأمريكا بعد الضربات الموجعة على ناطحات سحاب نيويورك وبناية البنتاغون ، اتخذت قرار إسقاط النظام بالقوة، ولا يهمها هذا الفريق العراقي أو ذاك.

تباين الموقف الشيعي العراقي تجاه أحداث سبتمبر بين الخارج والداخل، فالداخل المتمثل بالحوزة الدينية، والجمهور الشيعي العريض الناقم على النظام ، لا يمتلك غير الانتظار والهمس، فآية الله علي السيستاني لم يتمكن من زيارة الضريح العلوي إلا قبل أيام، لأنه ظل مقيماً تحت الإقامة الإجبارية لمدة عشرين سنة بالنجف، ولم يظهر صوت لتيار صدري أو جيش مهدي، كل هذا ظهر بعد إسقاط النظام. أما الشيعة العراقيون في الخارج فأعلن العلماء ببيانات وتصريحات ولقاءات صحفية تنديدهم الصريح، وقامت مؤسسة الإمام الخوئي بنشاط لافت للنظر بلندن ضد الضربات وتشويه صورة الإسلام بالغرب، وكان على رأس ضيوفها رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. لكن الشيعة بشكل عام ينظرون إلى ضربات سبتمبر بأمل الخلاص، فأخذ الإعلام الشيعي بشكل خاص ، والإعلام المعارض العراقي بشكل عام ، يثير التساؤلات حول دور للنظام العراقي في طائرات سبتمبر، وفي مقدمة هذا الإعلام جريدة «المؤتمر» لسان حال المؤتمر الوطني العراقي الموحد بزعامة الدكتور أحمد الجلبي.

تعرض ضغط الإعلام المعارض العراقي لتحريك السياسة الأمريكية ، سواء كان بإقناعها بدور للنظام في سبتمبر، أو بوجود ترسانة الأسلحة ذات الدمار الشامل، إلى النقد والتنديد، لكن صعوبة عمل المعارضة العراقية، ويأسها من تغيير النظام، بأي طريقة كانت، لما يملكه من حصانة أمنية وعسكرية فائقة ، يعد جزءاً من تحركها واقتناصها لأي فرصة سانحة، ولا اعتقد أن هناك فرصة ثمينة لعمل المعارضة العراقية بكل أطرافها مثل استغلال الغضب الأمريكي مما حصل لها في الحادي عشر من سبتمبر. وربما لم تتأخر أي معارضة أخرى في الاستفادة من هذا الظرف.

ولتحقيق هذه المهمة اندفعت الأحزاب الشيعية، مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، الذي ظل إلى آخر لحظة على الأرض الإيرانية، إلى التنسيق مع الأمريكان وكانت البادرة مؤتمر لندن ديسمبر 2003، رغم الخلاف الإيراني والعقبات التي ستضعها إيران لعرقلة مثل هذا المشروع. وما كانت تلك الأحزاب تقوم بهذا التقارب بعد التفريط بمؤتمر بيروت ثم فينا ، إلا أنها شعرت أن القوة الأمريكية ستقوم بالمهمة، والنظام زائل لا محالة.

لم يكن موقف المعارضة العراقية، بين المتشدد في شن الحرب ، أو الرافض لها ، أو بين بين ، بعيداً عن تصورات العراقيين في الداخل. فالشمال والجنوب والوسط كان ينتظر الحرب، حتى البعض استغرب من إسهام العراقيين في مسيرات ضدها، فالحرب لم تعد بالنسبة إليهم مخيفة بعد التعرض لحروب وحروب، وقتل جماعي، ووقتها وجدنا في الداخل مَنْ هو أشد حماسة للحرب، شريطة أن تأتي بقطع رأس النظام. وليس من مبالغة أن عراقيين شيعة رفعوا أياديهم بالدعاء إلى تنظيم القاعدة لفعلته، لا شماتة بأمريكا وإنما لتهيئة الفرصة لإسقاط نظام البعث.

وبعيداً عن خيانة شيعية وكردية، ملفقة مثل تلفيق خيانة الوزير العباسي ابن العلقمي، ووطنية سنيَّة عربية ، فإن العراقيين على مختلف طوائفهم وأديانهم انخرطوا في أحزاب المعارضة العراقية، وأن هناك جهات عديدة تمنت التنسيق مع الأمريكان بمن فيهم صدام حسين نفسه. فعلى شاشات التلفزيون طلب صدام أمام آخر صحفي أمريكي التقاه ببغداد، قبيل الحرب بأسابيع، اللقاء بالرئيس بوش، وقال: «يستطيعون أخذ ما يريدون بالسلم»، ووقتها استغربنا من جرأة الصحفي عندما قالها لصدام: ربما هذا آخر لقاء معك!

لقد وضعت ضربات الحادي عشر من سبتمبر السياسة الأمريكية على المحك أمام المعارضة العراقية، فصدقت بتحقيق قانونها، قانون تحرير العراق، وبدت جادة في خطاب بوش بذكرى سبتمبر الأولى، وجادة أكثر عندما وجه بوش إنذاره إلى صدام: أن يترك العراق وولداه خلال ثمان وأربعين ساعة! في تلك اللحظة لانت قلوب عراقيين عديدين لأمريكا وأعلنوا مصالحتها بعد عداء مزمن، لهول قسوة خمس وثلاثين سنةً من نظام حزب البعث! أصبح العراق بعد سقوط رؤوس نيويورك عراق الجميع، فالشيعي رئيس وزراء ووزير دفاع ونائب الرئيس ومدير المخابرات، والحوزة الدينية بالنجف تتدخل لحل المعضلات.

لكن ضربات سبتمبر وإن أسرعت في زلزال العراق ، إلا أنها جعلت الكل يعيد حساباته، فبرزت إلى السطح مفردة الإصلاح السياسي، والخلاف ليس على الإصلاح ، وإنما ما يجري الآن هو هل يأتي من الدار أم من خارجها؟

* كاتب وباحث عراقي