11 سبتمبر وأميركا..من يقود من؟

TT

جاء في كتاب (الخرافات) لـ(أيسوب) من القرن السادس قبل الميلاد، أن الشمس وريح الشمال تنازعتا في أيهما الأقوى؟ ثم اتفقتا على أن المنتصر منهما هو الذي يستطيع أن يجرد مسافراً من ثيابه؟ بدأت الريح السباق فسلطت ريحاً شديدة على الرجل فلم يكن منه إلا أن زاد تمسكاً بثيابه. سلطت الريح قوة أكبر مع برد شديد فلم يكتف المسافر بشد ثيابه إلى وسطه، بل تلفع بثوب إضافي. وفي آخر الأمر تعبت الريح وجاء دور الشمس فسطعت أولاً بدفء منعش، فألقى الرجل المعطف الواقي، ثم سطعت الشمس فاشتدت في حرارتها، فما كان من الرجل إلا أن بدأ يتخفف من ثيابه مع ارتفاع درجة الحرارة، حتى أبقى على نفسه في النهاية ما يستر عورته، وانطلق يستحم في نهر قريب.

وما فعلته أمريكا في العراق يشبه من وجه حماقة الريح. وكان يمكن أن تجنب نفسها فضائح من نوع سجن أبو غريب. وفي آخر عدد للشبيجل الألمانية، فتحت ملف التعذيب بدءًا من محاكم التفتيش وانتهاءً بصدام وأبو غريب. تحت عنوان «العودة إلى البربرية» و«العالم المظلم للتعذيب» Die Dunkle Welt der Folter.

والآن بعد مرور ثلاث سنوات على الصاعقة الكونية في نيويورك، ظهر إلى السطح جبل من المعلومات تعجز عن تحليله كمبيوترات العالم.

وفي أحد أعداد مجلة المرآة الألمانية كتب على الغلاف «كذبة سبتمبر September Luege». ولعل فيلم «شارع آرلنجتون Arlington Road» يقرب المسألة. فمن قام بتفجير مركز الـمخابرات الفيدرالية (FBI) كان (الأستاذ) الذي يدرس مادة الإرهاب، فوقع (الأستاذ) في النهاية في نفس الشبكة من حيث لا يعلم، ووضعت في سيارته عبوة التفجير، لتنفجر به ومركز المخابرات، فيقتل ويتهم أنه خلف التفجير. وهذا الفيلم تم عرضه على الشاشة قبل أحداث سبتمبر.

وأحداث سبتمبر قد تكشف حقيقتها بعد قرن، أو قد لا تكشف فهذا ليس المهم، وأياً كان فاعلها فقد (وُظَّف) الحدث ضد العرب والمسلمين.

مع هذا فإن قانون التاريخ غير تخطيط البنتاغون. وعندما حملت ألمانيا (لينين) في قطار مغلق مثل فيروس الإيبولا ليفجر الثورة في روسيا، كانت تظن أنها فعلت أفضل شيء ممكن. والأحداث في التاريخ تمشي وفق قانونها الخاص، وليس كما يراد لها فقد ينقلب السحر على الساحر. ويوم القيامة يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.

وهناك من أحداث التاريخ الغامضة ما لم تكشف حتى اليوم، مثل مصرع كيندي وحريق القاهرة، وفي مذكرات «إدوارد سعيد» المفكر الفلسطيني ألقى باللوم على الإخوان المسلمين في هذا، وهي تهمة يتبادلها الفرقاء المتخاصمون دوماً، وهم يتلون الكتاب و(تشابهت قلوبهم).

وفي قناة الديسكفري حاولت إعادة تركيب حدث اغتيال كيندي Reconstruction) )، لتقول إنه أمر جلل أن يحدث في وضح النهار لأعظم شخصية وتحت الكاميرات ولا يعرف الفاعل؟ لتكتشف في النهاية أن الزاوية التي أطلق منها النار غير تلك التي نفذها اوزوالد. وهذا يقول إنه أمر دبر بليل لا يعرف سره إلا الله تعالى والراسخون في المخابرات!

وأحداث مثل هذه، تعني أن عدم كشف فاعليها من مصلحة قوى عليا لا تريد أن تكشف للرأي العام ما حدث. وهو يؤكد أن النخبة من الشريحة العليا (الأوليجارك)، التي تمسك البلد، غير القطيع العام المشغول بالتفاهات اليومية، ولا يدرك أكثر من قطيع من النمل من المتسبب في حريق غابة.

ويجب أن نفرق بين أمرين: أن العبرة ليست في صدق الخبر بل (توظيف) الخبر. والمفكر الجزائري (مالك بن نبي) في كتابه «مشكلة الأفكار» يفرق بين «صدق الأفكار» و«فاعلية الأفكار»، فالفكر البعثي الفاشي في العراق استمر ودام، ليس لأنه نافع وصادق، بل لأنه (وظف) في خديعة جماهير أمية حتى جاءه الأجل المحتوم.

وكثير من الأفكار مثل الفاشية والبعثية والنازية والشيوعية مضت إلى ملفات التاريخ، ليس لأنها كانت صادقة، بل لأنها كانت يومها (فعالة) فمات الملايين من أجلها، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا؟

والشيء الأكيد أن الفكر الإسلامي يتعرض لمحنة في العالم اليوم. وهذه المحنة إن جاءت في وسطها الذهبي خدمته، وإن كانت في الحد الساحق عرضته لأضرار كبيرة وهائلة. ومن سيحكم على ذلك هي النتائج. والمحصلة الحالية سلبية. ولكن التاريخ لا ينظر له من هذه الزاوية. وعندما فشلت حملة (بيازيد) على أوربا عام 1402 بسبب وصول تيمورلنك إلى أنقرة، كان كسوفا في شمس العالم الإسلامي، حين تتنازع أعظم قوتين إسلاميتين وتتحطم القوة العثمانية. ولكننا نعلم أن أوربا لو «أسلمت» يومها، لنامت تحت جناح العثمانيين وأساطير «الملا نصر الدين»، عفوا «جحا» إلى يوم الدين. والتاريخ تقدمي ولا يأبه للمسلمين.

والإسلام «احصائيا» يعتبر أشد الأديان حيوية في كسب الأتباع، وفي ألمانيا توجد جمعية «أخوات محمد» يبلغ عدد أتباعها ما يزيد عن خمسين ألف امرأة، وهن لسن تركيات، بل بأسماء جرمانية (شميدت وكروب وسيمونه وبيرغيت)، ويعتنق الإسلام في أمريكا كل عام 22 ألفاً. ولكن بكل أسف فإن النموذج الذي ينتشر ليس الإسلام المستنير المتسامح العالمي الإنساني، بل المتعصب، وفي أحسن أحواله الصوفي الميت. ومن يتصارع في العالم اليوم من الجانبين الأمريكي والإسلامي فريقان يتبادلان التعصب والتهم. فنحن نسبح في عالم من الجنون. وفي البانوراما التي عرضتها قناة فضائية عن العالم وبوش، لم تخدم العالم ولا بوش، لأنها روت نسخة «الشرطة» عن يوميات المافيات، وأمريكا ليست هذا وذاك.

وفي الإنجيل يسبق السقوط الكبرياء. ومقتل أمريكا سيكون ليس من الجانب العسكري بل الاقتصاد، ودم الآلة العسكرية هو الاقتصاد. ويشهد باول كينيدي في كتابه «التحضير للقرن الواحد والعشرين» انكماشا في الاقتصاد الأمريكي العالمي من 40% إلى 18%. كما يروي في كتابه «صعود وسقوط القوى العظمى» سر انحطاط الإمبراطوريات بـ«فرط التوسع»، وهو خلف قرار أمريكا سحب قواتها من ألمانيا.

ويروي توينبي عن مآل «النزعة الحربية» في تدمير الحضارات، كما حصل مع آشور التي كانت تتفقد وتطور الآلة العسكرية باستمرار فماتت (مختنقة) في الدرع.

وتتوالى شهادات خبراء الاقتصاد عن مستقبل مظلم للدولار الأمريكي. ويتعاظم الشك في البورصات في أداء أمريكا القوة الأعظم. ويعتقد فيم دويزنبيرج Duisenberg Wim رئيس البنك المركزي الأوربي «أن الرفاهية في أمريكا في قسمها الأعظم هي محصلة نفخ اقتصادي، وأنها تتغذى على قصور مضاعفDouble deficit». من أموال المودعين وديون خارجية بلغت 500 مليار يورو.

واليوم أعظم المدخرات في الدولار هي في الشرق الأقصى (اليابان 462.3 مليار، الصين 270.6 ). وهذه الأرقام تقول إن أمريكا قابلة للإصابة، وأن رفاهيتها تقوم على أن العالم يشتري الدولار لأن البترول يباع بالدولار، وبهذه الكيفية فإن الثقوب في جدار الاقتصاد الأمريكي تسد، طالما كان البترول يباع بالدولار. مما يبقي الطلب على العملة الأمريكية في مستواها الحالي.

ولكن هذا التوجه لو تغير، فبيع البترول باليورو والين، فإنه سيقود إلى كارثة على أمريكا. ويذهب المؤرخ الأمريكي وليام كلارك إلى أن غزو أمريكا للعراق، لم يكن من أجل أسلحة الدمار الشامل وزرع الديموقراطية المزعومة، بل من أجل احتكار بيع النفط بالدولار فقط. وهي نظرية تم تناقلها بالانترنيت.

إن التاريخ يروي عن دورة انهيار الحضارات، أنها تتحول من فكرة إلى ثورة، ثم تتجمد في صورة دولة ثم تكبر إلى قوة إمبراطورية إمبريالية، ثم يجف النسغ في شجرتها كما يقول شبينجلر، ثم تتخشب فتهوي فتصبح غثاء أحوى. ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه. إن قصة أمريكا مع الأحداث في العراق، تشبه قصة جحا مع البغل. فقد ركب يوماً بغلاً حروناً فلم يمكنه من سوقه إلى الجهة التي يريد، فصادفه بعض أصحابه فقال له: إلى أين أنت ذاهب أيها الشيخ؟ فأجابه: إلى المكان الذاهب إليه البغل؟

[email protected]