خواطري الصريحة حول 11 سبتمبر

TT

تثير ذكرى المأساة التي حدثت في نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001، العديد من المشاعر والخواطر، لعل على رأسها شعور بالاستنكار الشديد، لأن يعمد نفر من الشباب على استغلال قدراتهم على التخطيط والتنفيذ المحكم في الشر وقتل الآلاف من الأبرياء، بدلا من أن يضعوا تلك القدرات في خدمة بلادهم التي تحتاج الى كل فكر وجهد وخبرة لبناء مجتمعاتها الداخلية، والاضطلاع على المستوى الدولي بدور يعزز الأوطان ويرفع شأنها ويقوي حجتها في مواجهة الأنواء والأخطار التي تحيط بها.

إن الأرض لن تتحرر، والأوطان لن تتقدم، والأهداف لن تتحقق عن طريق استعداء من كان يمكن أن يكون صديقا، واستفزاز مشاعر التعاطف مع الضحايا أيا كانوا، بل عن طريق القوة التي تخلق المنعة والعمل الذي يستجلب الأصدقاء.

هذه الملاحظة هي أول ما يقفز الى الذهن عند استرجاع ذكرى ذلك اليوم الذي كانت له تداعيات مازال العالم يعاني منها، وبعد ذلك، اذ يخلو الإنسان الى نفسه فيسترجع ما حدث فيه ثم ما تلاه، ويمعن الفكر في كل ما ترتب - وما زال يترتب عليه ـ فإني أجد نفسي أمام عدد من الخواطر لا بد أن تقال أغضبت من أغضبت، أو تجاوب معها من تجاوب.

أولا: إن ما حدث ـ على فداحته ـ ليس نهاية العالم، وليس أول حادث ارهابي مفزع. فقد شهدت دول كثيرة من قبل مثله في البشاعة والإجرام. ولا أريد أن أتحدث عما حدث في الماضي القريب والبعيد في اليابان والمانيا وفرنسا وأسبانيا، أو ما يحدث اليوم في فلسطين والعراق. ويكفي أن أشير الى السنوات التي عانت فيها مصر من ارهاب أسود وأعمى وقفت وحدها تواجهه وتحاربه من دون أن تجد عونا أو صدى ممن يتباكون اليوم على الارهاب وضرورة التكاتف في محاربته. بينما هم آووا من كانوا يحاولون نشر الموت والدمار في مصر، ورفضوا تسليمهم الى العدالة متذرعين ـ بما يبدو انهم نسوه اليوم ـ بحقوق الانسان وحرية الرأي، كأن الرأي لا يتم التعبير عنه إلا بالرصاصة والقنبلة تحصد الأبرياء وتضعف الأوطان.

ثانيا: إن الفرق بين كل ذلك وبين ما جرى في11سبتمبر وبين ردود الفعل في الحالتين، هو تعبير آخر عن ازدواج المعايير. فالضحية هذه المرة كانت هي الولايات المتحدة التي اعتادت على ألا تتعرض أرضها للخطر. فمنذ انتهاء حربها الأهلية خاضت كل حروبها بعيدا عن شواطئها. ومن هنا فإن ما حدث أثار لديها ولدى شعبها خليطا من الغضب والدهشة المشوبة بالذعر، والإحساس بالمهانة، لأن الدولة العظمى الوحيدة أصبحت مثل غيرها عرضة لما تعرض له الآخرون. ولأنها الدولة الأكبر والقطب الأوحد، فقد كان على الجميع أن ينضموا اليها في اعلانها الحرب على الإرهاب بمفهومها وتحت قيادتها.

ثالثا: في خضم هذا الغضب والفزع الأميركيين ورغبة واشنطن في أن تفرض تضامن العالم مع ما تشعر به وما تنتويه، وبينما المسؤولون في الولايات المتحدة يتخبطون فيما يجب عمله، دخلت اسرائيل على الخط، بما لها من دلال على واشنطن، وما تتمتع به من ركائز داخل دائرة السلطة الاميركية ـ في اطار سياستها التقليدية في خلط الأوراق وانتهاز كل فرصة للاساءة الى العرب والمسلمين. استطاعت اسرائيل ان تطابق في الذهن الاميركي بين ما تتعرض له من مقاومة مشروعة في فلسطين، نابعة من احتلالها وبطشها والجرائم اللاإنسانية التي ترتكبها يوميا ضد الشعب الفلسطيني ـ رجاله ونسائه وشبابه وأطفاله ـ وبين الجريمة البشعة التي ارتكبت في 11سبتمبر، بينما وجه الشبه الحقيقي هو بين الارهاب الاسرائيلي وإرهاب عصبة من الشباب الضال والمضلل، كلاهما ينبع من كراهية عنصرية للآخر، وحقد مريض ضده.

ووقع الاميركيون في الفخ، واستعذب بعضهم ذلك الوقوع الذي صادف هوى لديهم ـ فتصوروا أنهم وإسرائيل في معسكر واحد ضد «الارهاب العربي». ولا أعرف اساءة الى أنفسهم أكثر من تلك الاساءة التي ألحقوها، حين فرضوا على الفكر العربي أن يتعزز لديه سوء الظن بالولايات المتحدة، ليس فقط باعتبارها حليفا لإسرائيل، بل أيضا باعتبارها مساندا وشريكا لها في كل ما ترتكبه من آثام. وورثت الولايات المتحدة من اسرائيل أيضا، نظرتها السلبية الى العمل الجماعي، استنادا الى قاعدة أن العالم ـ حتى الحلفاء فيه ـ لا يتماشى مع الرغبات ولا يقبل ان ينقاد الى طرق وعرة وخطيرة لا تقود الا الى المهالك. وكان من نتيجة ذلك، فتور عربي في الانضمام الى ما سمي الحرب ضد الارهاب، وفتور أوروبي في المشاركة فيما أرادت واشنطن أن تقود اوروبا اليه، ليس لأن العرب أو الأوروبيين لا يرفضون الارهاب، بل لأنهم شعروا بأن هناك من يريد الانحراف بالمعركة الأساسية والحقيقية الى خدمة أهداف ومخططات مشبوهة.

رابعا: وبعد ذلك، زاد الخلط بين الأوراق بضغط الزمرة الموالية لإسرائيل المزروعة داخل دوائر صنع القرار في واشنطن، والتي استطاعت أن تحاصر الرئيس، وتستغل ايمانه ببعض النظريات المسيحية المتشددة المخالفة لصحيح الأناجيل، فأصبح العراق ـ وضد كل منطق وواقع أثبتته التحقيقات والتقاريرـ مرتبطا بالإرهابيين، متهما بامتلاك أسلحة دمار شامل ينوي تزويد الإرهابين بها لينشروا الدمار. وأصبح ضرب العراق «ضرورة» أملتها في الواقع أسباب غير ما قيل. فالصلة بالمنظمات الارهابية غير موجودة. وأسلحة الدمار الشامل تم التخلص منها بفضل عمليات التفتيش من جانب الأمم المتحدة. انما السبب الحقيقي كان ضرب ـ وربما تقسيم ـ دولة تستطيع أن تمتلك من مكونات القوة ما يدعم القدرة العربية على مواجهة أية مخططات اسرائيلية. صحيح أن صدام ـ بحكمه الفاسد المبدد ـ كان قد بدد الكثير من تلك الامكانيات، وأصاب الأمة العربية بشروخ ما زلنا نعاني منها. ولكن ذلك كله لا يغير من حقيقة ان غزو العراق لم يكن مبررا. وان قلب الأنظمة بالقوة مرفوض. وأن حالة الفوضى المؤلمة التي يعاني منها العراق ـ والتي طالما حذرت مصر منها ـ هي نتيجة مباشرة لسياسات خاطئة لا تخدم مصلحة أميركية حقيقية، بقدر ما تخدم مصالح من يريدون اضعاف قدرات الأمة العربية في التصدي لهم.

خامسا: هناك ـ مع ذلك كله ـ أمل في أن تدرك الولايات المتحدة ـ أيا كان رئيسها المقبل ـ أن من صالحها العدول عن سياسات أثبتت عدم نجاحها. وان تتخلى عن أوهام دسها البعض عليها فشوه صورتها، وعرض مصالحها للخطر. وأن تبدأ عهدا جديدا من التعاون مع العالم العربي على أساس التفاهم والتعاون والعمل على حل المشاكل الحقيقية، على أساس تعزيز المصالح المشتركة في بناء مستقبل من الأمن والسلام والرخاء والديمقراطية، تتطلع إليه شعوب المنطقة كلها بعيدا عن دعاة التطرف والعنصرية والفوضى، وفي اطار العمل الجماعي المتفق مع الشرعية الدولية ومع ميثاق الأمم المتحدة، والبعيد عن محاولات السيطرة والإملاء.

* وزير خارجية مصر السابق