معالم قاسية لمكارثية جديدة على الخريطة الدولية

TT

لم يكن 11 سبتمبر 2001، تأريخاً لحقبة جديدة في العلاقات الدولية والصراع العالمي، بل إفرازاً لعهد جديد ابتدأت ملامحه في نهاية الثمانينات، وتكرّس واقعاً مع انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية. حينها تفردت الولايات المتحدة بزعامة العالم، وابتدأ عهد جديد في العلاقات الدولية.

ولأن الصراع محكوم بقوانين، كان لا بد للولايات المتحدة أن تبحث عن مضمون صراعي آخر بعد انتهاء الحرب الباردة، ليوازن بعض الشيء في معادلة العلاقات الدولية، وليُقولَب سبباً في تكريس الهيمنة الأميركية، والتي بحثت في تطبيقاتها وتحويلها واقعاً فعلياً في وقت مبكر، معاهد دراسات استراتيجية كثيرة، ومخططون سياسيون استراتجيون أميركيون كثيرون أيضاً.

حاييم هرتزوغ، الرئيس الأسبق لدولة الكيان الصهيوني، كان الأوضح في التعبير عن طبيعة المرحلة الجديدة وسماتها المحددة وما تعنيه للولايات المتحدة. ففي خطاب له في البوند ستاغ الألماني، أوضح أن العدو الجديد للولايات المتحدة وللغرب ولإسرائيل، بعد انهيار الشيوعية، هو: الأصولية الإسلامية! وهذا ما لم يكن مطروحاً إبّان الحرب الباردة. بل العكس من ذلك، فقد شهدت العلاقات الأميركية الغربية مع هذه الأصولية فترة ازدهار تحالفي في مرحلة الحرب الأفغانية. وكانت الولايات المتحدة من ساهم بشكل كبير في تمويل هذه الأصولية ضد ما كانت تسميه «امبراطورية الشر».

ولأننا لا نود البحث في خلفيات التحول في العلاقة من التحالف إلى التناقض بين الجانبين، انطلاقا من أهمية التركيز على عنوان هذه المقالة، إلا أن الحقيقة التي لا بد من ذكرها: أن هذه التنظيمات الأصولية استولت على الحكم في كابول، وما بدأت تطرحه من سياسات ومنطلقات استراتيجية عزّز من التناقض.

ثم علينا ألا ننسى، بأي حال من الأحوال، أن الكارتيل الصناعي العسكري في الولايات المتحدة، معني بإيجاد بؤر توتر جديدة على صعيد العالم، من أجل تسويق سلاحه ومن أجل تجريبه أيضاً. والمعروف أن هذا التجمع يلعب دوراً مهماً في توجيه السياسات الأميركية.

وسط هذه اللوحة، جرت أحداث 11 سبتمبر. وتعارضت وجهات النظر في تحديد من قام بها. وذلك للقدرات العلمية والتقنية الفائقة التي تحلى بها القائمون بالعملية، مما يلقي بظلال كبيرة من الشك على الرواية الأميركية للحدث.

لقد جرى استغلال ما حدث في 11 سبتمبر من قبل الإدارة الأميركية استغلالاً كبيراً على الصعيدين المحلي والدولي.

محلياً: صادرت الإدارة الأميركية الكثير من الحقوق المدنية للمواطنين الأميركيين، بخاصة من ذوي الأصول العربية والإسلامية. فأصبح السجن للأفراد من دون توجيه تهمة معينة، حقاً مكتسباً للقضاء. وكذلك إبعاد الأشخاص عن أرض الولايات المتحدة لمجرد الشك. والتحكم في إعطاء سمات الدخول لمن يرغب في الزيارة، وأخذ البصمات والتصوير ومنع البعض من دخول الطائرات. والأهم من ذلك، ممارسة الرقابة بكافة الأشكال والسبل على المواطنين الأميركيين، وعلى الموجودين في الولايات المتحدة بوسائل مبتكرة، وبإجازة قانونية هذه المرَة. مما دعا العديد من المراقبين إلى القول بولادة جديدة للمكارثية.

جرى استغلال أحداث سبتمبر أيضاً، في ترهيب الأميركيين بين الفترة والأخرى، بدواعي المحافظة على الأمن، بتشكيل وزارة جديدة للأمن ورصد مبالغ خيالية للأجهزة الأمنية والمخابرات المركزية، وذلك في محاولة تسويغ وتسويق سياسات الإدارة محلياً، وحرف الأنظار عن تقصيراتها في الوعود التي وعدت بها الناخبين إبّان معركة الرئاسة. المعنى يكون استغلال الحدث قد فُرض في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عدا التأثيرات أيضاً في الجوانب العسكرية.

على الصعيد الخارجي: كأن الولايات المتحدة كانت تنتظر أحداث «سبتمبر» لتعزيز هيمنتها، ولخوض كل حروبها العدوانية في العالم تحت شعار مكافحة الإرهاب! اقترفت الحرب ضد أفغانستان وضد العراق وبمعارضة من الشرعية والمجتمع الدوليين. ورغـم أن حملات التفتيش الدولية كانت تجري على أراضيه، ولم يكن هناك ما يشير، من قريب أو بعيد لامتلاك العراق أسلحة دمار شامل (وقد أثبتت الأحداث صحة ذلك)، ورغم ذلك، تم غزو العراق.

استغلت الإدارة الأميركية أحداث سبتمبر لتعزيز تحالفها مع إسرائيل، وتأييدها للمجازر اليومية التي تقترفها ضد شعبنا الفلسطيني، ولفرض رؤيتها في تسوية الصراع العربي ـ الصهيوني، من خلال تبنيها وتفهمها لوجهات النظر الإسرائيلية في خريطة الطريق.

الولايات المتحدة فرضت وجهات نظرها على المجتمع الدولي، وعملت على تطويع الأمم المتحدة بكافة مجالسها والمؤسـسات التابعة لها، انطلاقاً من مبدأ «من ليس معنا فهو ضدّنا». وبذلك بهّتت من صورة الشرعية الدولية، وحدّت من دورها في فرض النزاعات والتصدي للكثير من القضايا الدولية والحياتية لملايين الفقراء في العالم، الذين يعانون من الجوع والأمراض والبطالة وتفشي البؤس بكافة أشكاله ومظاهره.

استغلت الولايات المتحدة أحداث 11 سبتمبر، لفرض مفاهيمها وتحويل المقاومة المشروعة للشعوب المحتلة إلى «إرهاب»، ضاربة عرض الحائط بقوانين الأمم المتحدة التي أجازت للشعوب الجاري احتلال أراضيها، مقاومة محتليها، بما في ذلك الحق في استخدام الكفاح المسلح.

الولايات المتحدة الأميركية وتحت شعار «محاربة الإرهاب»، تفرض سياساتها على أقرب حلفائها الأوروبيين، ومعاركها (ضد الإرهاب) ليست محكومة بزمان أو مكان. وهذا يعني أن بإمكانها استخدام القوة لضرب أية دولة عسكرياً، أو احتلالها، أو اغتيال من تريد كيفما تشاء ومتى تشاء!

ومن المعروف أن من يقف مع الولايات المتحدة ويوافق سياساتها من دول العالم، هو في عرف الإدارة الأميركية الدول الديمقراطية، حتى لو كانت محكومة من أعتى الدكتاتوريين. بينما من يقف في وجه سياساتها، فهؤلاء يجري تصويرهم علن أنهم غلاة الدكتاتورية (فنزويلا وشافيز)، حتى ولو كانوا في قمة الديمقراطية!

الولايات المتحدة تخفي أهدافا كثيرة وراء شعاراتها في مكافحة الإرهاب: من خلال وجودها العسكري في مناطق كثيرة من العالم، بما فيها الشرق الأوسط، من خلال الوجود في العراق من اجل السيطرة والتحكم في سياسات الدول الشرق أوسطية، للمحافظة على مصالح حليفتها الاستراتيجية إسرائيل.

أما الأهداف الاقتصادية، فتتمثل في الإشراف على البترول والتحكم فيه من قزوين إلى الشرق الأوسط. وتتمثل أيضا في نهب ثروات الشعوب مـن خلال طروحات: العولمة، والجات وغيرها من وسائل السيطرة.

الولايات المتحدة توجه تهديدات حقيقية إلى سوريا وإيران ولبنان تحت ذريعة «مكافحة الإرهاب». ورغم ذلك يجري التساؤل، في أورقة البيت الأبيض والكونجرس والبنتاجون: لماذا يكرهوننا ؟

الأولى أن يخلص المحللون والمخططون الاستراتيجيون الأميركيون إلى نتائج ودلالات حقيقية من أحداث 11 سبتمبر غير هذه الدلالات والنتائج التي استخلصوها، والتي نعيش ونعاني إفرازاتها وتداعياتها.

* قيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين