دروب، لا جذور

TT

كلما قرأتَ كتاباً جديداً لأمين معلوف، كأنك قرأته من قبل: الجهد الخارق في البحث، التأني البالغ في الكتابة، والسلاسة النهرية الرائقة في الاسلوب. كأنك تدخل الى بستان هائل من الثمار او الى غابة هائلة من الشجر او إلى حقل أسطوري من القمح كيفما تلفَّتَ وجدتَ شيئاً. كيفما تحركت، كان عبق أو لون أو غذاء.

الفارق بين كتاب معلوف الجديد «بدايات» وبين كتبه السابقة، انه هذه المرة بدل ان يغوص في سير الرحالة والملوك والشعراء، يتحول الى دفاتر عائلته. وليس بأحد قادر على وضع ملحمة سردية عن عائلة صغيرة في قرية لا يتعدى عدد منازلها العشرة، الا امين معلوف.

خمسمائة صفحة تتيه في عالم الجدود. اولاً في مجاهل لبنان ومدارسه، ثم في البحار وصولاً الى هافانا. ويستغل امين هذه السيرة الضخمة لكن يدوَّن، بين السطور، عواطفه الى والديه واهله. والى الجميل من الاقرباء. وبين السطور يرسل الى والده، نسائم الاعتذار عن قسريات الصبا ولفح الشباب وذلك الصراع التاريخي بين الابن والاب، حول النظرة الى العالم والاشياء والمصائر والقضايا. بين ابن يرى الحل تلك الايام، في فورة اليسار والثورة الفلسطينية، وأب متقدم في التجربة والنضوج وثقافة الاستقرار.

«بدايات» هو، على نحو ما، قصة معظم العائلات اللبنانية في اواخر القرن التاسع عشر: قرية صغيرة يهجرها شبابها على ظهور البغال الى بيروت. وفي العاصمة يركبون اول مبحرة الى موانىء العالم. اي ميناء. وعندما افقت على هذا العالم، رأيت الاقرباء يعودون للزيارة من البرازيل والمكسيك والولايات المتحدة والارجنتين. عمومة والدي واخواله. وعمومة امي واخوالها. اناس موزعون في قارتين، خرجوا من قرية فيها آنذاك نحو 40 بيتاً. كانوا يعودون من كل المهاجر ومعهم جميع اللهجات واللكنات. ويسمَّون باسماء الاماكن التي جاءوا منها: يوسف «الشامي». وعليا «المصرية». وفؤاد «بونيس ايرس».

والآن فقدنا الصلة تقريباً بابنائهم واحفادهم. ونسينا الاسماء. ولم نعد نعرف العناوين. وآخر رحلة «مهجرية» قمت بها كانت العام 1974، عندما ذهبت الى فلنت، ميشيغان، وجارتها لانسنغ، بحثا عن منزل جديَّ. وهناك التقيت عمومة ابي وابن خالي الاكبر وشقيقته واولادهما. وقد استقبلت بدهشة الهابطين بالصحون الطائرة. ووجدت انه اصبح لكل منهم عالمه الذي لا علاقة له بعالم اجداده: الطبيب، والقاضي الاتحادي الاعمى، وبطل «الرغبي»، والمحاسب، والمتقاعد في حديقة المنزل. عالم لا علاقة له بالوطن «الأم». لذلك سمى امين معلوف كتابه «بدايات» لا جذور: «فالجذور تتوارى في التربة، تتلوى في الوصل، تنمو في الظلمات». وهو يفضل البدايات. هو يفضل الطرقات: «فالطريق ليست لها بداية حقاً، قبل المنعطف الاول، هناك في الخلف، ثمة منعطف آخر، ثم آخر. أنا انتمي إلى عشيرة ترتحل منذ الازل في صحراء بحجم الكون».