العابرون

TT

يقول محلل سياسي تركي انه لم يعد ينقص الدولة الكردية في شمال العراق، سوى الانضمام الى الامم المتحدة. ويقول ان تركيا خائفة من دولة كردية تمتد من العراق الى سورية الى الأردن. وعندما تقوم مثل هذه الدولة، فإنها سوف ترتد على تركيا نفسها حيث الأكراد يتململون سياسياً منذ سقوط الامبراطورية العثمانية. طبعاً، هذا الكلام ينفيه الأكراد. أي كلام الدولة الكبرى. لكن الاكيد انهم يقاتلون في تركيا وشمال العراق منذ دهر، وانهم كشفوا في حوادث القامشلي هذا العام عن عنف فاجأ الجميع. فالمعروف ان سورية كانت تدعم حزب العمال الكردستاني طوال سنين ولم تبعد زعيمه عبد الله اوجلان الا عندما وصلت الى شفير الحرب مع تركيا بسبب ايوائه. ومع ذلك حدث ما حدث.

سواء كان كلام المحلل التركي صحيحاً او دقيقاً او مبالغاً فيه، فالمؤكد ان الشمال العراقي شبه مستقل. ومن ناحية اخرى، الجنوب العراقي واقع بكل وضوح في النفوذ الايراني. وفي مقابل «الذاتية» السائدة في الشمال والجنوب، يزداد الوسط اشتعالاً على نحو جنوني. وكان ايمن الظواهري قد هدد قبل اسبوع ان ايام اميركا اصبحت معدودة في العراق، ثم انفجر الوضع في بغداد والفلوجة وصولاً الى الحدود التركية في تلعفر. وكالعادة استهدف التفجير المدنيين العراقيين بطريقة وحشية خالية من اي رحمة، فيما وقعوا من ناحية اخرى ضحايا القصف البربري الاميركي. وهذا يعني ان ابواب جهنم قد فتحت حقاً، كما قال جاك شيراك.

الخوف هنا ليس على المدنيين العراقيين فحسب بل على العراق. اكتبها وانا خائف من ان لا يكون كلام المحلل التركي خيالاً كله. واكتبها وانا اشك في ان خطط ايران واحلامها النائمة وماضيها الامبراطوري يتوقف فقط عند التدخل المرئي وغير المعلن. واكتبها وانا خائف من ان مفجري بغداد وحارقيها والذين يفلحونها بالقنابل، قد يرمون البلاد، بمعرفة او جهل، في تقسيم الأمر الواقع وتفتيت العراق وتدعيم المخطط الصهيوني والاستعماري الأبدي في تفتيت المنطقة الى دويلات عرقية وطائفية لا تكون فيها عنصرية اسرائيل سوى جزء من مجموعة.

اتمنى، بالتأكيد، ان اكون مخَّرفا وغارقا في الوهم. لكن ما دامت شرعة الاحتلال هي القائمة في المنطقة فكل شيء ممكن. من احتلال ايران للجزر الاماراتية الثلاث وعدم الدخول حتى في تفاوض بشأنها، وبالتالي التصرف باستعلاء و«استكبار» تستنكره ايران في كل مكان آخر. الى احتلال العراق للكويت الذي فجَّر المنطقة ودفع بعضها، بما فيها ارضه، الى الحضن الاميركي. الى الاحتلال الاسرائيلي الذي يجد بين العرب من يتحدث باسمه من دون رفة جفن، بحجة البراغماتية والموضوعية وما يرافقها من ذل وصفقات.

المأزق الاكبر هو المأزق الأميركي. وكل يوم تحاول «المقاومة» إذلال جورج بوش وانتخاباته بقتل مائة عراقي ونشر أشلائهم على الطرقات. والعلماء الذين لم تستطع اسرائيل اغتيالهم في الماضي يتبرع العراقيون بقتلهم الآن و«تقصيبهم». وهذا يفسر ربما لماذا كان اول «مطلوب» سلم نفسه للأميركيين بعد دخولهم هو العالِم عامر السعدي المسؤول عن المشروع العلمي، لأن الحماية في المعتقل افضل منها في مثل هذه «الحرية». والمحتل مرغم على التقيد ببعض بديهيات القانون، في حين ان القاتل غير ملزم بأي شيء. وكذلك «المقصَّب».

ثمة مآزق كثيرة. أخطرها مأزق العراق. ووحدة العراق. فكل شيء عابر: الاحتلال عابر. والقتلة عابرون. والفوضى عابرة. والعذاب عابر. وهولاغو الذي يتمشى بين المدنيين والأبرياء عابر ايضاً. لكن الخوف هو على العراق. البقية عابرون.