ليس جلدا للذات.. بل نقد لبهلوانيتنا السياسية!

TT

لا نواجه في العالم العربي اليوم تحديات الإرهاب وعودة الاستعمار في صوره المباشرة، بل إننا نواجه قبل ذلك وأثناءه، أشكالاً من العجز الذاتي المرتبط بعدم قدرتنا على تحقيق برامجنا في الاصلاح والنهضة، والتقليل من عنف التحديات الخارجية الجارفة. وسنظل نكتشف قصورنا في مغالبة ما تفرزه أوضاعنا الداخلية وأوضاع العالم من تحديات، لأننا لم نتعلم الحسم والحزم في لحظات مواجهتنا لمعضلات تاريخنا المعاصر، ولم نستوعب العبر اللازمة لتحقيق طموحاتنا في امتلاك القوة والتقدم.

وما جرى في العراق وما يجري اليوم في سورية ولبنان، وما جرى ويجري في مصر وفي ليبيا والسودان، وما تعرفه مختلف البلدان العربية في أوضاعها العامة، يقدم الدليل القاطع على فشلنا التاريخي في تدبير أسئلة واقعنا، وإدارة المتغيرات التي ارتبطت بصيرورة التحول الذي عرفه واقعنا في النصف الثاني من القرن الماضي وإلى حدود لحظتنا التاريخية الراهنة.

إن مشكلات الاصلاح السياسي، ومشاكل تدبير وضع السلطة والدولة، ومفارقات السلطة والثروة كلها قضايا عربية مركبة وموصولة ببعضها البعض، وقد واجهناها بصيغ مختلفة خلال الخمسين سنة الماضية، في سياق المتغيرات التي شكلت الملامح الكبرى لنظام العلاقات الدولية، كما نشأ وتطور خلال الحقبة المذكورة، لكننا لم نتمكن من بلوغ المرامي والأهداف التي سطرنا لأنفسنا، سواء في مستوى التنظيمات السياسية المدنية، أو في مستوى السلطة السياسية السائدة، فتضاعف عجزنا وتفاقمت مشكلاتنا. ولعلنا نواجه اليوم متغيرات واقع عالمي جديد، مرتبط بدوره بمتغيرات، بعضها يعد محصلة فشلنا في تحقيق الاصلاحات الضرورية اللازمة لانخراط أفضل في التعرف على ذاتنا وعلى العالم، وبعضها الآخر مرتبط بسياقات التحول الجارية في العالم، والتي نحن بالضرورة جزء منها. نحن هنا لا نربط تدهور أوضاعنا فقط بفشل الدولة في مجتمعاتنا، بل لعلنا لا نجانب الصواب اذا ما اعتبرنا أن فشل النخب السياسية المعارضة، ساهم بدوره في تكريس مناخ التردي العام المهيمن على أحوالنا. إن عجز التنظيمات السياسية عن تطوير أدواتها في العمل، وأدائها في مواجهة أنظمة التسلط الخانقة، يعكس في بعض جوانبه قصوراً في خيالنا السياسي، كما يعكس عدم وضوح الأهداف وتمرحلها في برامجنا ومواقفنا السياسية، وذلك بسبب عجزنا عن مواكبة المتغيرات السريعة التي حصلت وما فتئت تحصل أمامنا في العالم..

ولا ينبغي أن يفهم ما نحن بصدد بلورته في إطار ما يطلق عليه «جلد الذات»، فذواتنا تستحق فعلاً كثيراً من الجلد القادر على ايقاظ الضمائر وحفز الهمم، وذلك لنتمكن من صوغ التصورات والبرامج الكفيلة بتسريع وتيرة التحول والتغير في اتجاه الاصلاح، وهذا الأمر ينطبق على الدولة السائدة، كما ينطبق على جبهة التنظيمات السياسية الرامية إلى الاصلاح.

ومن أجل توضيح أفضل لما نحن بصدده، نشير إلى ان النقاش الذي عرفه مشكل تغيير المادة 49 من الدستور اللبناني في الآونة الاخيرة، وضعنا أمام جملة من المعطيات الشبيهة بالنقاشات التي كانت جارية في أوساط النخب السياسية العربية قبل استعمار العراق، مع عدم إغفال الفوارق القائمة بين الحدثين، وعدم تناسي الجوامع القائمة في الوقت نفسه بينهما، فقد كنا نفكر مرة أخرى وبصورة ميكانيكية بكثير من آليات التفكير المرتبطة بزمن القطبية الثنائية، ولم نحسب جيداً متطلبات ومقتضيات التحولات الجارية في العالم بعد سقوط جدار برلين.

وقبل ذلك بسنوات قليلة شاهد العالم كيفية انتقال السلطة في سورية، شاهد التعديل الدستوري، وتعديل مواثيق العمل الحزبي في البعث السوري، كما عاين بلاغة صمت ويأس النخب السياسية والفكرية، وهي تتفرج على أحداث ومشاهد تفتقر إلى الحدود الدنيا من العقلانية السياسية والحس التاريخي القادرين على تجاوز أخطاء الماضي.

ويقدم الجدل السياسي السائد اليوم في أوساط المعارضة المصرية في موضوع الاصلاح السياسي (وهو جدل يزداد اتساعاً وغنى) مثالاً آخر على مآل الصراع السياسي في قطر عربي، يفترض أن يشكل قاطرة فاعلة في مجال التحول السياسي الديمقراطي في العالم العربي، بحكم جملة من العوامل التاريخية التي لا مجال هنا لا للاشارة إليها ولا لبسطها..

ينطبق الأمر نفسه على الأوضاع السياسية في بلدان عربية اخرى، وقد عرفت أثناء الغزو الأمريكي للعراق وبعده، كثيراً من المعطيات التي تدعو إلى ضرورة تعميق التفكير في الممارسة السياسية العربية وفي المستقبل العربي.

ولا شك ان مجمل مشاكلنا السياسية في العالم العربي، تعود إلى عدم قدرتنا على تشخيص ما جرى ويجري في بلداننا منذ انفراط المعسكر الاشتراكي، واختيار الولايات المتحدة الأمريكية بناء قوة ضغط عالمية وداعمة للاحتلال الاسرائيلي للأرض العربية، كما تعود إلى عدم قدرتنا على الحسم في لحظات مواجهتنا للتحديات التي نواجهها داخل كل الأقطار العربية.

وإذا كان من المؤكد أننا نواجه اليوم في العالم العربي وقائع وأحداث سياسية وتاريخية مركبة ومعقدة، فإنني أريد التشديد في هذا السياق على أهمية مواجهة ونقد البهلوانيات السياسية التي يمارسها حكامنا، وذلك بتكسيرهم بكثير من العنف المادي والرمزي لمكاسب تاريخ طويل من العمل السياسي، تاريخ من التضحيات السياسية لمجتمعاتهم، ترضية لأطراف معينة وبحجج تمنح العوامل الخارجية والتحديات الخارجية امتياز التحكم في مسار التحول السياسي في بلداننا، متناسين أن بناء المشروع الديمقراطي ينبغي أن يشكل في ذاته هدفاً مركزياً يعلو على كثير من الاختيارات التي تربط مصيرنا بتحليلات تدعو إلى العجب، تحليلات تبرر ما لا يقبل التبرير الا عندما نستغفل أنفسنا ونحتقر نخبنا وشعوبنا وننسى تضحياتها في التاريخ، ومقابل كل ذلك نراعي مصالح فئات على حساب فئات أخرى، متناسين أن الاحتكام في مجال الصراع السياسي ينبغي أن يكون مراعياً لرهانات سياقات الحاضر وضغوطه، دون إغفال لمكاسب التاريخ التي نحرص بواسطتها على رعاية التراكمات القادرة على توليد ما يطور مشروع الاصلاح السياسي الديمقراطي الحداثي في حاضرنا.

لقد بدا لنا في مناسبات متعددة أن الوهن الذي أصبح سمة ملازمة لواقعنا السياسي، يعكس شيخوخة النظام السياسي العربي، الشيخوخة الزمنية والشيخوخة الرمزية، لقد شاخ هذا النظام، وأصبح عاجزا عن ايجاد المخارج. وشاخت أنظمة المعارضة بدورها، وتجلت مظاهر شيخوختها في التوجهات التي ما تزال تحكم أنظمتها وقوانينها في العمل، ولعل هذه التنظيمات تستدعي بدورها تجديداً يبلور صيغاً مبتكرة في العمل السياسي المدني.

ولا شك في أن سعي كثير من تنظيمات الاسلام السياسي لسد الفراغ القائم، قد ساهم في الزخم التي تشهده بعض هذه التيارات في أكثر من ساحة عربية، رغم أن هذه التيارات تستند في روحها العقائدية لرؤية تتسم بكثير من لغة الاطلاق المختلفة تماماً عن لغة المواثيق السياسية الوضعية والتاريخية.

ولا تحيل الشيخوخة إلى العجز وثقل الحركة، بل إنها تشير إلى الترهل، وإذا كانت هذه النعوت تشير إلى المستوى البيولوجي، فإن هناك سمات أخرى توضح بعض الأبعاد النفسية المساعدة بدورها على فهم أحوال أنظمتنا السياسية، يتعلق الأمر بسوء الادراك وبالخلط والتردد واستسهال المواقف، وكلها سمات نستطيع الوقوف عليها في كثير من ممارسات أنظمتنا السياسية في العالم العربي.

ولهذا كله لا بد من الاصلاح وإعادة البناء، وقبل ذلك لا بد من الاعتراف بأن الواقع الذي أشرنا إليه تؤطره شروط تاريخية موضوعية، شروط لا ينفع فيها الرضى عن الذات ولا الاكتفاء بجلدها، بل إن المطلوب دون تردد هو إطلاق مسلسل الإصلاح التاريخي الشامل بروح دينامية خلاقة تتيح لنا مقاومة مظاهر التردي ومواجهتها بالآليات التي تتطلبها.