موريتانيا .. ما بين انقلابات العسكر وتدخلات الجيران

TT

كنا نبهنا في مقالة سابقة حول التحديات التي تواجهها موريتانيا في الأفق القريب، إلى أن وعود النفط (الذي سيبدأ تصديره في العام المقبل)، والطريق (الرابطة بين انواذيبو والدار البيضاء)، ضاعفت القيمة الجيوسياسية لهذا البلد، الذي تتلخص عقدته الاستراتيجية في معادلة هويته الإقليمية.

وقد جاءت الأخبار المقبلة من موريتانيا مؤكدة هذا التوجس، إثر إعلان الحكومة الموريتانية، اكتشاف محاولة انقلابية ثانية بعد مرور سنة واحدة على التمرد العسكري الدموي الذي هز البلاد يوم 8 يونيو 2003. وقد اتهمت الحكومة أطرافًا إقليمية بدعم المحاولة الأخيرة، في مقدمتها دولة بوركينافاسو، التي تبدو ضالعة في أغلب الأزمات التي تعصف بمنطقة غرب إفريقيا.

ومع أن موريتانيا كانت عرفت، على غرار العديد من البلدان العربية وأغلب البلدان الإفريقية، سلسلة انقلابات عسكرية متتالية، منذ الانقلاب الذي أسقط الحكم المدني الأول عام 1978، إلا أنها عرفت استقرارًا سياسيًا ملحوظًا منذ التغيير الذي أوصل الرئيس الحالي معاوية ولد سيد أحمد الطائع للسلطة عام 1984، على الرغم من بعض فترات التأزم ومحاولات قلب نظام الحكم خصوصًا في نهاية الثمانينات. ومع بداية المسار الديمقراطي التعددي عام 1991، تعزز الانطباع بخروج المؤسسة العسكرية من الحلبة السياسية التي هيمنت عليها ثلاث عشرة سنة كاملة.

ومن مسوغات هذا الانطباع عوامل ثلاثة أساسية:

أولها: انحسار وتآكل القيادة العسكرية التقليدية التي قامت بانقلاب 1978، إثر التصفيات الداخلية المتتالية التي عرفتها منذ مطلع 1979، بتنحية الرائد جدو ولد السالك وزير الداخلية والرجل القوي في حكومة الإنقاذ التي ورثت نظام ولد داداه، ومن بعده الرئيس ولد محمد السالك نفسه، والعقيد ولد لولي الذي خلفه، انتهاء بالمقدم هيداله الذي كان آخر العناصر المحورية في الانقلاب العسكري الأول.

ثانيها: تصفية أغلب الحساسيات الإيديولوجية القومية العربية والزنجية من المؤسسة العسكرية، إثر اتهامها بالضلوع في محاولات انقلابية، واكتشاف تنظيمات سرية لها في الجيش، ومن أبرزها التيار البعثي الذي كان له جناح عسكري واسع كاد أن يوصله للسلطة، وحركة أفلام القومية الزنجية التي خططت لقلب نظام الحكم عام 1987 .

ثالثها: انبثاق مناخ سياسي جديد متولد عن الديناميكية الديمقراطية، التي أفرزت معادلة غير مسبوقة حدّت من التنظيمات الإيديولوجية، التي هيمنت على الساحة السياسية خلال الثلاثين سنة الأخيرة.

فمع أن تلك التنظيمات (من قومية عربية ناصرية وبعثية وإسلامية ويسارية وقومية زنجية)، سعت إلى التأقلم مع الوضع الجديد بتشكيل أحزاب سياسية أو الانضمام إلى تشكيلات ائتلافية جديدة، إلا أنه بدا من الواضح، أنها فقدت فاعليتها التعبوية والتنظيمية داخل حقل سياسي تحكمه العلاقة المعقدة بين نظام المجتمع الأهلي التقليدي القائم على العصبية، الذي إن كان يتآكل وينحسر، إلا أنه ما يزال يوفر زخمًا تعبويًا وتحشيديًا هامًا، وأشكالا جنينية لمجتمع مدني حديث أفرزته الديناميكية الاقتصادية، المتمحورة حول حركة التجارة التي ينشط فيها الموريتانيون كلهم، وإن ظل للألوان الإيديولوجية المألوفة بعض الدور في عملية الإخراج السياسي.

وقد شكلت هذه المعادلة، خلفية لكل التشكيلات السياسية التي نشأت منذ انطلاق المسار الديمقراطي، وعددها يزيد اليوم على العشرين حزبًا معترفاً به رسميًا.

صحيح أن أغلب هذه الأحزاب له وجود هش، ولم تفتأ التشكيلات الكبرى تتفكك وتتجزأ، حتى وصلت المعارضة إلى أضعف مواقعها، بعد فترة انتعاشة وقوة ضمنت لها في انتخابات 1992 الحصول على ثلث أصوات الناخبين، بيد أن الديمقراطية الموريتانية على نقائصها وثغراتها مكنت من تحقيق مكسب هام وأساسي، هو امتصاص الاحتقان السياسي المتولد عن تركة العهود الاستثنائية (الحزب الواحد والنظام العسكري) بمنح حرية التنظيم الحزبي وحرية الصحافة والتعبير، وبوضع إطار تمثيلي لكل الحساسيات السياسية.

بيد أن المحاولة الانقلابية التي جرت في السنة المنصرمة، بدت لبعض المراقبين نذير عودة المؤسسة العسكرية من جديد لاعبًا في الرهان السياسي، على الرغم من كونها كانت تمردًا محدودًا داخل وحدات الجيش، كما أن ترشيح الرئيس السابق محمد خونه ولد هيداله للانتخابات الرئاسية، التي نظمت يوم 7 نوفمبر 2003، في أجواء ساخنة عززت الشعور نفسه، خصـــوصًا بعد اتهامه من الجهات الأمنية بالتخــــطيط لانتفاضة عسكرية في حـال فشله في الانتخابات.

ومن الواضح أن أكثر ما تخشاه الحكومة الموريتانية اليوم، ليس انفلاتًا داخليًا (من داخل المؤسسة العسكرية التي تشبثت خلال المحاولة الدموية الماضية بالشرعية) وإنما تشكيل بؤرة توتر إقليمية من خارج حدود البلاد تكون عامل تأزم واضطراب، حسب المشهد الذي عرفته العديد من بلدان غرب إفريقيا المجاورة، ومن هنا حرصها على حسم المشكل القائم مع بوركينافاسو على خلفية اتهامها بإيواء قادة الانقلاب الفاشل الفارين.

ويبقى تعزيز المسار الديمقراطي وتوسيع إطار المشاركة السياسية، الخيار الأمثل لتوطيد السلم الداخلي، ضمن مفهوم المصلحة العليا المشتركة للبلد، والوعي بالمخاطر التي تستهدفه في أمنه ودوره الإقليمي، في أفق التوسع التنموي الذي سيكفله استغلال الموارد النفطية والمعدنية الهامة التي تزخر بها موريتانيا… إنه التحدي الأهم المطروح على القوى السياسية الموريتانية، سواء كان موقعها في الحكم والمعارضة، أما ثقافة الانقلابات وخيار الثورات العسكرية الجوفاء فقد مضى زمانهما، ولا مآل لهما سوى خراب العمران ودمار العباد.