هذا .. وإلا فإننا سندخل في الحرب الكونية الثالثة لا محالة!

TT

هل نعتبر أحداث 11 سبتمبر 2001 بداية للحرب الكونية الثالثة؟ ربما قد تكون الحرب فعليا قد بدأت، وليس من الضرورة أن يكون نمطها كالحروب الكونية الأخرى. فالحرب الباردة استمرت لعقود طويلة وانتهت بانهيار الاتحاد السوفياتي. مؤشرات الأحداث التي يشهدها العالم، خصوصا منذ تفجيرات سبتمبر تشير إلى أن حربا جديدة قد بدأت. وما يميز الحرب الجديدة أنها حرب مع الإرهاب والتطرف الديني التي زج بالإسلام فيها.

ولما كان الإسلام معنيا بهذه الحرب، فلعل استرجاع كتابات المثقفين العرب قد تساعدنا في فهم أبعاد الإرهاب الذي يشهده عالم اليوم. ما زالت كتابات المثقفين عن الإسلام السياسي تحمل شخصيات عديدة لجهة سبب نشأته في تحميل السبب أعباء الأخطاء والعلل التي يشهدها المجتمع العربي في القرن الماضي. معظم تلك الكتابات حول ظاهرة الإسلام السياسي لخصت لنا خمسة مستويات من العلل الموجودة في المجتمع العربي، والتي أدت إلى بروز هذه الظاهرة، وهي أسباب تاريخية، نفسيـة، لغوية، آيديولوجية وسياسية.

المستوى التاريخي تمت الإشارة إليه من قبل فئتين من المفكرين، فئة تحدثت عن العلل التي كانت موجودة في المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام، وفئة تحدثت عن العلل التي شهدها المجتمع في القرن العشرين. في الحقبة الأولى حمل المجتمع العربي فيها سمات النظام القبلي الأبوي، الذي برهن على مقاومته للتغيير بالرغم من عصرنه المجتمع، وشكل قوة معيقة لتطور المجتمع، والإسلام السياسي يقوم على قيم النظام الأبوي.

أما الجانب اللغوي فتجسد في كتابات مفكري القرن التاسع عشر، الذين استخدموا لغة القرآن في التخاطب السياسي، الأمر الذي أحدث فجوة كبيرة وشرخا بين مفرداتها ومفردات عامة الناس التقليدين، وهو ما يفعله مفكرو الإسلام السياسي في وقتنا الحالي، حيث يستعملون مفردات ولغة خاصة تحدث الشرخ نفسه وتخدم بالتالي أهدافهم. أما الجانب النفسي، فقد اعتمد أكثر على رؤية المفكرين وعلماء الفلسفة والتاريخ، وتركز على موضوع التحديث وأثره على الإنسان العربي. حيث أسفرت العصرنة عن خريطة اجتماعية، وثقافية انعكست بالتالي عواقبها النفسية على المسلمين، فأدت إلى انفجار جديد لسلوك أصولي تمثل في العودة إلى الأصول الذي شكل معظم أوجه الحياة العربية.

أما علل المجتمع العربي على المستوى الآيديولوجي، فقد اعتمد جيل هذا الطرح أسلوبا بسيطا مفاده أن الآيديولوجية هي تعبير عقائدي للسلطة. هذا النهج في الكتابة والتفكير حجب الوصول إلى أي تحليل حقيقي للمشكلات الاجتماعية، وخلى من أي فهم واقعي لأحداث التاريخ.

أما العلل السياسية فتجسدت في انهيار قوى وحركات التغيير، وسقوط طروحات القومية العربية، التي بدورها شجعت على نشأة الإسلام السياسي. إضافة إلى أن البعض تناول الانتقادات لسياسات الحكم في الدول العربية التي ضيقت مساحة الحرية وانبعثت نحو أجواء التطرف.

وما زالت الكتابات مستمرة في تفسير ظاهرة الإسلام السياسي وما نتج عنه من حركات إسلامية متطرفة، مقاومة لأي محاولة لتحديث المجتمع، وترى في الماضي سبيلا للحياة وترى في القطيعة مع الغرب المنفذ إلى إعادة القوة للمجتمع المسلم. لقد خضع الخطاب الديني منذ بداية حركة الاستقلال في المجتمعات العربية، إلى أدلجة، فأصبحت مهمة الخطاب الديني مقاومة المد القومي الذي ظهر في هذه المرحلة، فالدين أصبح سلاحا سياسيا يستخدم لقمع الحركات القومية المنادية بالديمقراطية.

لقد شهد عقد الثمانينات تناميا في قوة الإسلام الراديكالي، الذي انطلق من طهران وانتشر في كثير من عواصم عربية أخرى. وظهر التساؤل الذي طرح في المجتمعات الغربية: هل تنامي الظاهرة الأصولية الإسلامية يعد تحديا مباشرا للمصالح الغربية؟ حيث جاء سقوط الاتحاد السوفياتي وقيام جمهوريات إسلامية في آسيا الوسطي، وحرب تحرير الكويت وسقوط صدام حسين، لتجد الولايات المتحدة الأميركية نفسها أمام أكثر من أصولية واحدة، ولم يعد التعامل معها أمرا هيناً. وبدأت التساؤلات المتعددة تطرح على بساط البحث، وكان أهمها هل الأصوليات التي يشهدها الشارع الإسلامي امتدادا للتيارات الدينية التي سادت في الأربعينات والخمسينات؟ أم هي تطور لها أو نبت خاص لا يمت لها بصلة؟

وتؤكد الأحداث التي شهدها العالم في 11 سبتمبر 2001، وانفجارات الرياض وغيرها من دول عربية وإسلامية أخرى، الخوف من تنامي الظاهرة الأصولية الدينية، بل تؤكد وجهة النظر القائلة بأن هذه الحركات تهدف إلى إسقاط أنظمة الحكم.

استطاعت الحركات الراديكالية الدينية أن تستثمر تردي الأوضاع العامة في البلاد العربية، والذي نجم عنه اهتزاز كبير في منظومة القيم، فتأثر الكثير من الشباب في طروحاتها، ووقع الكثير فريسة لأفكار التطرف التي وجدوا فيها مخرجا لأزماتهم النفسية والاجتماعية. رواج الفكر المتطرف أو «التكفيري» يعبر عن حالة شديدة من التعصب، وقد نبه العلامة ابن خلدون لخطورة هذه الظاهرة واعتبرها أداة تدمير للأمة. والمتتبع لأحداث العالم، يجد أن أعمال الإرهاب لم تعد مقصورة على المجتمعات الغير مسلمة، وإنما حتى الدول الإسلامية أصبحت هدفا لها، مما يؤكد عالمية الظاهرة وأنها تتطلب في مكافحتها جهدا دوليا.

تفشي ظاهرة التطرف والعنف يؤكد أن الدولة الحديثة في المنطقة العربية فشلت في القيام بواجباتها، وتبنيها لسياسات وطنية تعمل على الاندماج الاجتماعي، الأمر الذي أضعف علاقة الفرد بالدولة، وفي أحيان كثيرة أضر بمصالحها، ولم تنجح عملية التحديث التي تعرضت لها البلاد العربية في إدماج الهويات الفرعية. فالقبيلة والعائلة والطائفة استمرت في تأدية أدوارها على حساب عملية الاندماج الوطني، مما أدى إلى إيجاد فراغ نفسي واجتماعي لدى قطاعات واسعة من الشباب الذي أصبح مهيأً لتلقي أفكار مختلفة ومنها أفكار التطرف والتشدد الذي وجد فيها إنقاذاً من الضياع والتشتت.

الحرب مع التطرف الديني تتطلب منا إعادة النظر في كثير من البرامج والسياسات، وخصوصا التعليمية. وكما قال وزير التربية الوطنية التونسي «... من طبيعة التعليم في البلاد العربية والإسلامية أن يشجع على تنامي الأصولية، ولذلك يتطلب الأمر تنقية من كل ما يتناقض مع حقوق الإنسان ومع أسس الدولة الحديثة. وبهذا الإصلاح الجذري في النظم التعليمية سيكون بإمكان المدارس على المدى المتوسط المساهمة في علاج المجتمع من التطرف الديني». وفي حالة فشلنا فمن المؤكد أننا نسير في بداية الطريق نحو الحرب الكونية الثالثة.

* كاتب وأستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت