شارون.. «يصحح» هرتزل

TT

موافقة المجلس الوزاري المصغر في الحكومة الاسرائيلية على قانون دفع التعويضات للمستوطنين اليهود الذين سيتم إجلاءهم من قطاع غزة وبعض مستوطنات الضفة الغربية،في اطار خطة «الانفصال« التي وضعها ارييل شارون، ستطلق سباقا بين نوعي المستوطنين المحتلين للارض الفسطينية هما: المنتفعون من التقديمات الخاصة بالاستيطان والمستعمرون بذرائع دينية.

ولكن إذا كان من المتوقع ان يتهافت النفعيون أولا على التقدم بطلبات تعويض، ففي اوساط المتدينين والمتطرفين سوف يتصاعد اتهام داعي دعاة الاستيطان، ارييل شارون، بالتنكر لليكوديته وسيتكرر نعته بالخائن لصهيونيته، وهو الذي أوصلته تجربته المريرة في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية على مدى السنوات الاربع المنصرمة الى قناعة غير معلنة بان «سيف» الانتفاضة «أصدق انباء» من التوراة.

شارون لم يتخلّ يوما عن صهيونيته. جل ما فعله هو خلع البدلة المدنية لرئيس الحكومة واستبدالها ببزة الجنرال العسكرية - الاكثر ملاءمة لطبعه ـ ليبدأ بتقديم الحسابات الاستراتيجية على الايديولوجية السياسية ويتوصل الى استنتاجين ميدانيين:

ـ الاراضي الفلسطينية المحتلة يصعب، بل يستحيل، هضمها أمنيا.

ـ ووتيرة النمو الفلسطيني الديمغرافي كفيلة، مع الزمن، بطمس الهوية اليهودية لدولة اسرائيل في حال ضم هذه الاراضي قسرا اليها.

أرييل الشارون، الخائن في نظر المستوطنين اليهود والايديولوجيين الليكوديين، قد يدفع مستقبله السياسي ثمنا لمحاولته الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من حلم تيودور هرتزل بدولة يهودية خالصة قابلة للحياة. فشارون، بارتداده الى ذهنيته العسكرية، اصبح صهيونيا واقعيا لا صهيونيا طوباويا. وعلى هذه الخلفية تعتبر مقاربة شارون الجديدة للدولة اليهودية في فلسطين بمثابة حركة تصحيحية لمفهوم منظر الصهيونية تيودور هرتزل، لهذه الدولة.

ربما كانت آفة كل الايديولوجيات السياسية تطبيقها، فبين التنظير العقائدي والتطبيق العملي هامش واسع من «اللااحتماليات» التي تتكشف في سياق التجربة وتتحول بفعل اصطدامها بالواقع الى «استحالات» تعجّل في فشل التجربة الايديولوجية، كما حدث مع التطبيق الماركسي في الاتحاد السوفياتي.

لذلك يمكن القول ان ما يسدده شارون عام 2004 من رصيده السياسي هو ضريبة حلم هرتزل عام 1897 بدولة تنهي تجمعات «الغيتو» اليهودية في اوروبا لتقيم ليهود العالم دولتهم الخاصة على ارض فلسطين.

وإذا كان قرار شارون التراجع عن الاستيلاء على «كل» ارض فلسطين المؤشر الاول على فشل حلم هرتزل بدولة تشمل «أرض الميعاد» بأكملها، فإن جدار الفصل العنصري الذي يبنيه شارون فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة يمثل الوجه الآخر لفشل حلم هرتزل، وهو فشل لا يقل في بعده السياسي عبرة عن الاول، فهرتزل الذي توخى من «الوطن اليهودي» الخلاص الى الابد من مجتمعات «الغيتو» اليهودية لم يخطر على باله أن «الوطن » باكمله سيتحول الى «غيتو» مسيج بالواح الاسمنت والاسلاك الشائكة والاخاديد الترابية.

ولكن، حتى في نطاق التطبيق الاضيق لتجربة الدولة اليهودية، لا يبدو الحفاظ على يهودية اسرائيل مضمونا على المدى الطويل، سواء بفعل التحولات الديمغرافية في الداخل أو السياسية العلمانية في الخارج.

وإذا جازت المراهنة على نجاح عملية نشر الديمقراطية في الشرق الاوسط ـ وعلتها في اميركيتها وليس في جوهرها ـ فقد يتحول الشرق الاوسط الديمقراطي، على المدى الطويل طبعا، الى عامل احراج لاسرائيل اليهودية، فقد يواجهها يوما بخيارين محددين: إما الالتزام بالقرار الانتخابي لاكثرية عربية ويهودية علمانية لا تعني الصهيونية شيئا لها، وبالتالي التحول الى دولة مدنية لكل ابنائها، أو الارتداد الى ذاتيتها اليهودية لتلعب الدور الذي لعبته قبلها الانظمة العربية ـ دور الدولة الاوليغارشية بامتياز.