السودان: بين غيبوبة أهل الحكم وضغوط واشنطن

TT

عندما ينظر المرء للسودان بعيون العالم يجد ان اوضاعه خاصة مأساة دارفور تشغل حيزا كبيرا من اهتماماته، وان كل المؤسسات الدولية ذات الصلة تتناول مواقفه رغبة في نجدته او عقابه. وغالب دول العالم تتعاطف مع شعبه، بينما البعض يتهيأ للانقضاض عليه لاسباب معروفة لا مكان لتكرار سردها، لكن الغريب في الامر عندما يشخص المرء بالنظر الى السودان يجد ان ما يفعله قادته من السياسيين ان في الحكم او المعارضة، خاصة منظومة الاسلام السياسي على الصعيدين ـ في الحكم والمعارضة ـ يجد انهم يزايدون على نهشه عوضا عن التسابق لرص الصفوف لنجدته، لكأن وجود السودان ككيان لا يعنيهم في شيء بقدر ما يعنيهم العراك حول كراسي السلطة التي هي بالاساس لن يكون لها وجود ان تفتت الكيان نفسه! وهي كراس تنعموا بها مجتمعين عقدا من الزمان ولما انقسموا بعد ذلك اوصلوا البلاد الى ما هي عليه الآن.

لا نريد ان نعدد الضرر الذي لحق بالبلاد من حكمهم مجتمعين، ويكفي ان نستعرض ما يحيق بالبلاد الآن من مصائب بعد انقسامهم بسبب غرسهم السابق ونتيجة لتحريك موازين القوى بين صفوف الجناحين وفي دارفور على وجه الخصوص. فقد نسب من في السلطة الى جناح الترابي انه وراء اشعال حرب دارفور، وقال نائب الرئيس البشير في مؤتمر صحافي: «ان حركة العدل والمساواة هي الجناح العسكري لحزب الترابي وان الاسلحة التي ضبطت مخبأة في احياء في العاصمة السودانية تخصهم ايضا في مخطط للاستيلاء على السلطة بالقوة، ووصف الترابي وحزبه بأنهم تجاوزوا الخطوط الحمر بتخطيطهم لزعزعة الاوضاع في البلاد وتنفيذ اغتيالات، لكن المخطط قد جرى افشاله».

وفي الجانب الآخر لم ينف نائب الترابي الدكتور علي الحاج سعيهم لاسقاط الحكومة ولا تعاونهم مع مقاتلي دارفور، بل قال في صراحة ووضوح لـ »الشرق الأوسط« (عدد الاثنين 13/9): «نحن طالبنا وما زلنا نطالب باسقاط الحكومة ولكن ليس بالسلاح، بل بثورة شعبية يشترك فيها كل الناس بمن في ذلك حاملو السلاح، سواء في الحركة الشعبية او دارفور او غيره». وبالنسبة لحركة العدل والمساواة قال: »بعض القائمين على امر هذه الحركة وليس كلهم كانوا عناصر فاعلة في الحركة الاسلامية مثل علي عثمان والبشير اللذين هما في السلطة الآن».

وتحدث الترابي ايضا في احدث تصريحات صحافية له عن الضغوط التي تواجه الحكومة لإطلاق سراحه من السجن فقال: «ضغوط الجنوب اي الحركة الشعبية وزعيمها جون قرنق الذي قال انه لن يدخل الخرطوم الا باطلاق سراح الترابي، وايضا ضغوط الغرب اي حركتي التمرد في دارفور قالوا لن يستمروا في المفاوضات الا باطلاق سراحي».

لا ريب ان هذه التصريحات من الجانبين كلها تصب في تأكيد ان الحركة الاسلامية هي المسؤولة عن اشعال فتيل حرب دارفور التي هي الآن اكبر ورطة تواجه السودان، وبينما هي مثار اهتمام العالم كله الا ان الحركة بشقيها انشغلت تماما بالتصفية بين قياداتها وفي غيبوبة كاملة عن ما وضعت فيه السودان، وغير مدركة لعاقبة نهايتها كحركة ان لم تكن نهاية كل السودان.

لعل اكثر ما يدعو للأسى ان مجلس الامن يناقش مصير السودان، والاتحاد الاوروبي يهدد ويتوعد والولايات المتحدة تجعل من دارفور ولاية انتخابية في مبارزة بين بوش وكيري بينما الجناح الحاكم من الحركة في السودان يتصارع مع الجناح المبعد من السلطة حول من خبأ الاسلحة ومن يريد ان ينقض على السلطة وما الى ذلك من تراشقات؟ وهي كلها مسائل لا ترقى الى الوضع الماثل في البلاد.

لا شك يخطئ هؤلاء وأولئك اذا اعتقدوا ان الشعب السوداني تهمه هذه المعارك الانصرافية التي لا ناقة له فيها ولا جمل سواء كانت هذه الاسلحة خبأها جناح الترابي لاسقاط الجناح الآخر او رتب امرها الجناح الذي في الحكم للانقضاض على الترابي ومن معه.

فالشعب يعرف ان كل ما اصابه من ضر هو من صنع هؤلاء الذين عنوانهم المعروف هو الجبهة القومية الاسلامية وزعيمهم هو الترابي بمن بقوا معه او انشقوا عليه. والشعب يدرك كذلك انهم جميعا اوصلوا البلاد الى هذه الحافة من الهاوية. وان كل ما يحدث الآن في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها البلاد من صراعات جانبية ان هي الا دليل اخير على ان هذه الجماعة غير مشغولة بهموم البلاد او العباد ولا هم لها الا السلطة!

اما بالنسبة للعالم الذي انظاره كلها مصوبة نحو السودان فلن تزيده هذه الصراعات الدائرة الآن إلا قناعة بأن اوضاع الحكم في السودان الآن غير مستقرة وانه يحتاج الى فرض وصاية عليه مما يعزز فرضية دعاة التدخل العسكري الدولي الذي تحاول تسويقه الولايات المتحدة عبر مشروعها المطروح عليه والذي يجد رفضا بحسبان ان الحكم في السودان يعمل على تسوية النزاع.

كذلك يدور هذا الصراع المؤسف والمحزن في الخرطوم بينما تتعثر المفاوضات في ابوجا، وقطعا تعثرها شديد الارتباط بانعكاسات التوتر الدائر بين الجناحين في العاصمة السودانية. أولم ننقل عن الترابي قوله عن مفاوضي المتمردين: انهم لن يستمروا في المفاوضات اذا لم يطلق سراحه؟ أولم ينسب الترابي لقرنق ما يحمل ذات المعنى؟!

واذا كان الامر كذلك فهل من المنطق في شيء ان تصعد الحكومة من ضغوطها على الترابي وحزبه الى درجة المواجهة ام من الحكمة اخذ الامور بشيء من التعقل وبعد النظر ووضع مصالح البلاد العليا فوق كل اعتبار؟ بكل تأكيد ان مسؤولية الحكومة تتجسد اولا في مراعاة الاوضاع في البلاد وكل ما يحيط بها في الخارج والتحرك وفق هذه المعطيات بكل ما يحيط بها من ظروف. ولذلك لا ينبغي لها ان تفتح معارك جانبية او تقبل بان تجر لها جرا في وقت تكون فيه البلاد في مسيس الحاجة الى اكبر قدر من لملمة الصفوف ورحابة صدر تسع الجميع حتى يمكن تفويت الفرصة على الطامعين في الخارج والمتعاونين في الداخل وتجاوز الهجمة الشرسة على السودان.

حقا، وصدقا، ان اوضاع السودان الآن من الهشاشة بحيث لا تسمح باحداث اية هزات اضافية مهما صغر حجمها، ولذلك فإن مسالك الاجتماعات التي تعددت من كينيا الى نيجيريا الى القاهرة يمكنها ان تستوعب ايضا د. الترابي وحزبه. وكذلك الصادق المهدي وحزب الامة حتى يكون التفاهم شاملا الجميع من دون استثناء وحتى يكون الوفاق هو الحماية المنيعة لسد الطريق امام اي طامح في النيل من وحدة السودان. وعلى الحكومة تقع المسؤولية الكبرى في محاولة تهدئة الاوضاع وفي تبني الدعوة لكل ما من شأنه ان يجمع الصفوف ولا ينبغي لها ان تتعامل بردود الافعال الطارئة او تتعالى عن بسط قدرة سعة الصدر في غض الطرف عن بعض التجاوزات لانها في كل الاحوال هي المسؤولة عن البلاد، والسودان في هذه اللحظات يمر بمرحلة دقيقة وخطيرة تستوجب فعل كل شيء من شأنه المحافظة عليه ككيان، فهل تقدم الحكومة هذه المرة بشجاعة وسرعة لتطويق المخاطر؟