لو تأخر في العودة!

TT

في «قصتي مع الصحافة والحياة» يروي الصحافي اسعد شرفان حكايات من مسيرة بدأها في الثلاثينات، وعمل خلالها صحافياً ومفتشاً في الأمن العام ايام الفرنسيين. وكان في لبنان اوائل الاربعينات معتقل شهير سمي على اسم البلدة التي اقيم فيها. والى هذا السجن كان الفرنسيون يرسلون المعتقلين السياسيين والمعارضين من لبنان وسورية. وذات يوم قرروا «تصفية» المعتقل، بمعنى إغلاقه. وأرسل المفتش شرفان للقيام بالمهمة فأمضى هناك فترة غير قصيرة. وتعرف شرفان الى معتقل سوري مجهول تقريباً يدعى حسني الزعيم. وقامت بين الاثنين صداقة. وصارا يذهبان كل يوم الى مدينة صيدا القريبة للنزهة في اسواقها وعلى شاطئها. وعندما اغلق المعتقل نهائياً فرح السجناء السياسيون فرحاً عظيماً. الا السجين حسني الزعيم. فقد بدا كئيباً. وسأله المفتش شرفان عن السبب، فقال ان لا مكان لديه يذهب اليه. وتذكر شرفان انه طوال مدة الاعتقال لم يكن احد يأتي الى زيارة صديقه، لأن أهله يخشون الامر. وكان حسني الزعيم قد ولد العام 1900 في قرية صغيرة شمال سورية من أبوين فقيرين من العشائر. وبقي في القرية حتى سن العاشرة عندما تولى احد اعمامه الميسورين نقله الى دمشق وأدخله المدرسة ثم الكلية الحربية. ووصل في الجيش الى رتبة مقدم. والعام 1941 اعتقلته السلطات الفرنسية بتهمة الانتماء الى الحزب السوري القومي، وسجن في «المزّة» ثم نقل الى المية ومية.

وقف حسني الزعيم على باب المعتقل وقال لشرفان: الى اين اذهب؟ فأجاب هذا «نغادر هذا المعتقل وبعد ذلك يمكن تسوية جميع الامور». وجاء الاثنان الى فندق «اميركا» في ساحة البرج، الذي كان يومها من الفنادق المتوسطة في المدينة. وبعد عشرين يوماً، قال شرفان لصديقه: «لماذا لا تعود الى دمشق وتستعيد رتبتك العسكرية وتعود الى العمل في قطاعات الجيش التي لا تزال موالية لك كما تقول».

وعاد الزعيم الى دمشق. وبعد فترة قصيرة سمع شرفان، الذي دخل الصحافة في «صوت الاحرار» نبأ الانقلاب الذي قام به الزعيم حسني الزعيم. ولم تمض ساعات حتى اتصل به الزعيم بنفسه ودعاه للسفر فوراً الى دمشق والالتحاق به كمستشار في رئاسة الوزراء. وذهب. ولم تطل به الاقامة في العاصمة السورية ولا طالت الاقامة بالزعيم في القصر الجمهوري.

لا أدري مدى صحة او دقة الرواية التي يفتتح بها شرفان (80 عاماً) كتابه الصادر حديثاً (نشر شخصي) لكن اذا كان ما ورد صحيحاً فإن المسؤول عن اول انقلاب عسكري في العالم العربي هو، على نحو ما، اسعد شرفان. ولو لم يقنع حسني الزعيم بالعودة، لربما امضى الرجل المزيد من الوقت في مقهى «ابو عفيف» على «ساحة البرج» الذي كان اشهر مقهى في المدينة. ولما حدث ما حدث. او ربما كان ترك «ابو خالد» سابقة الانقلاب الاول لضابط آخر. وافتتح حسني الزعيم بذلك مرحلة من عدم الاستقرار والخضات والدبابات والاحكام العسكرية. وقيل في البداية ان الفرنسيين وقفوا خلف الانقلاب. ثم روى مايلز كوبلاند مؤلف «لعبة الامم» ان الاميركيين دبروا الانقلاب وجعلوا المسألة تبدو وكأن الفرنسيين خلفه. وتكراراً لا ادري مدى دقة الاستاذ شرفان او صحة ما روى مايلز كوبلاند. فقد اعتاش عميل السي. آي. ايه الشهير في سنواته الاخيرة من الروايات. وكانت مخيلته خصبة. وكان تعلقه بالصدق وشرف الكتابة واهياً. وكان كل شيء يدور حوله. ولو أعطي العمر لكتب انه كان يقف وراء مقتل توت عنخ امون.