الممرات السورية الصعبة.. قرارات خطيرة .. ولكنها في الطريق إلى الرف..!

TT

بعيداً عن التصريحات المستعجلة التي أطلقها أكثر من مسؤول سوري في الأسبوعين الماضيين للتعليق على قرار مجلس الأمن رقم «1559»، بدأت الدوائر السورية المعنية عملية تقويم معمق للتداعيات التي سجلت خلال الأسبوعين الماضيين، بعدما حزمت دمشق أمرها وقررت دعم خيار التمديد للرئيس اللبناني اميل لحود نصف ولاية رئاسية ثانية، عبر ثقلها «المميز» لدى الفعاليات والنخب السياسية اللبنانية، رغم قرار مجلس الأمن رقم 1559 الذي صدر بسرعة لافتة قبيل جلسة التمديد في مجلس النواب اللبناني بساعات قليلة، لإحداث حالة هلع لدى النواب الذين صوتوا على التمديد بسهولة ويسر.

عملية التقويم المشار إليها تنطلق من حقيقة أن لا مصلحة لسورية باستعداء الشرعية الدولية، وهي سلاحها الأمضى للدفاع عن حقوقها المغتصبة من إسرائيل، صاحبة الرقم القياسي في التمرد على الشرعية الدولية.

ويعتقد الخبراء أن القرار الدولي خطر للغاية، وهو وثيقة يمكن استخدامها في كل وقت، لكن ذلك لا يلغي هشاشته، فهو يطالب سورية، وإن لم يسمها، بعدم التدخل في الشأن اللبناني، وهو في الوقت ذاته حالة تدخل مكشوفة تملي على اللبنانيين ومؤسساتهم (مجلس الوزراء ـ مجلس النواب ـ المؤسسة الرئاسية) ما يصح وما لا يصح، وما هو شرعي وما هو غير شرعي، وعلى ذلك فهو يشكك بهذه المؤسسات وبقراراتها كافة، فما الذي حدث؟!

للوهلة الأولى، بدا للبعض في دمشق وكأن سورية وقعت في فخ محكم، حيث جرى الحديث همساً عن تقرير سربته شخصية لبنانية رفيعة عن محادثات فرنسية ـ أمريكية، مهدت لقرار مجلس الأمن وفي ثنايا التقرير إشارة إلى أن الولايات المتحدة غير مهتمة بإصدار مثل هذا القرار، وإشارة أخرى للانقلاب في الموقف الفرنسي تجاه دمشق مع تحميل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وزر هذا التحول على خلفية الصداقة التي تربطه بالرئيس الفرنسي جاك شيراك، وبرغبته في قطع الطريق على التمديد لخصمه الرئيس اميل لحود. التقرير بحسب هذا السيناريو دفع دمشق لاستعجال قرارها كسباً للوقت.

من حيث الشكل، يمكن الركون وبالقياس لما جرى على الأرض، إلى أن هذا السيناريو يقارب الحقيقة، لكن الجوهر لا يسمح بالتبسيط، لأن سورية التي تدير واحداً من أصعب الحوارات المعقدة والمتعددة الأشكال في التاريخ الحديث مع الولايات المتحدة، لا تذهب إلى هذا الخيار لمجرد وصول قصاصة حملها مسؤول لبناني من صديق أمريكي يريد الخير لدمشق، حتى ولو كان هذا المسؤول اللبناني يحظى بكل التقدير والاحترام في العاصمة السورية.

ولا نذهب لهذا الخيار، لأن الرئيس رفيق الحريري لديه هذا الثقل النوعي في السياسة الفرنسية، بحيث يستطيع تغيير دفتها، من مسار الدعم والصداقة لسورية، إلى مسار العداء والكراهية والبحث عن طريقة للنيل منها!

فلم ذهبت ؟! وهي تدرك حجم الخسائر التي ستتكبدها بدءاً من قاعة مجلس الأمن، وليس نهاية بقاعة الجامعة العربية، وبين القاعتين ملاعب التهويل وبيانات المدافعين عن الدساتير المقدسة وحقوق الإنسان الموعود بالديمقراطية على الطريقة الأمريكية في العراق الحر للغاية !

لماذا ذهبت ؟! سيظل هذا السؤال معلقاً في سماء المنطقة، لإن الإدارة السورية لم تكشف النقاب عن أسبابها ويبدو أنها لا تريد الآن الإجابة !

لكن هذا الغموض لا يمنع التقاط الإشارات التي ظهرت على ضفاف الحدث في الأسبوعين الماضيين:

الإشارة الأولى: الولايات المتحدة على عكس ما جاء في التقرير تبنت المشروع الفرنسي وأبدت اهتماماً كبيراً، الأمر الذي ولد ديناميكية عاجلة لإصداره.

الإشارة الثانية: لم يعمل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ضد التمديد، فقد دعا إلى جلسة عاجلة لمجلس الوزراء وأعد مشروع قرار التمديد وذهب إلى مجلس النواب وصوت وأعضاء كتلته النيابية مع القرار، وهو الذي أعلن قبل ذلك أنه يقطع يده اليمنى ولا يوقع على قرار التمديد، ولكن مع الأسف تعرض لكسر في يده اليسرى ولم يمنعه ذلك من التوقيع.

الإشارة الثالثة: إن سورية قوية في لبنان أكثر مما يظن البعض، وأن قرار مجلس الأمن لم يحدث التأثير السيكولوجي المطلوب على النواب الذين يتطلعون إلى الربيع القادم، حيث موعد حجز المقاعد تحت قبة البرلمان، كما يتطلعون إلى قانون الانتخابات ودوائرها وتعقيداتها التي ترسم الممرات الصعبة للوصول إلى ساحة النجمة (مبنى مجلس النواب).

الإشارة الرابعة: إن الهدف من الحملة الدولية لحماية الدستور اللبناني من أهله، هي حملة على خيارات لبنان ودوره ومقاومته، وهذا أمر بات مفهوماً أكثر من أي وقت مضى، بعدما أفصح عن ذلك وزير خارجية إسرائيل بالقول (نعم تريد إسرائيل فصل لبنان عن سورية ودفعه للتوقيع على اتفاق سلام وقرار مجلس الأمن يساعد على ذلك).

الإشارة الخامسة: إن الولايات المتحدة تريد من قرار مجلس الأمن وقوداً إضافياً لصرفه على الحدود السورية ـ العراقية وليس الحدود السورية ـ اللبنانية !

الإشارة السادسة: إن السياسة السورية في لبنان لا ترتهن لرغبات حفنة من المتضررين ممن ركبوا موجة سوء الفهم في العلاقات السورية الأمريكية أو السورية الفرنسية، ولكنها تخضع لضرورات استراتيجية تدق أبواب المنطقة وشبابيكها أيضاً.

الإشارة السابعة: قرار التمديد اتخذ والنواب وافقوا عليه، بدأت العجلة تدور وبعد بضعة أيام تتغير الحكومة، أما مسألة إعادة الانتشار فهذا شأن لبناني سوري.

وإذا ما رغبنا في فحص السؤال مجدداً سنصل إلى أسئلة أخرى لا يمكن شطبها مثل:

هل يشغل بال الإدارة الأمريكية حفنة من المعترضين على التمديد ؟ وهل تحرص الولايات المتحدة على قدسية الدستور اللبناني، هكذا من أجل سواد عيون العماد ميشيل عون وبعض المعلقين السياسيين المنفعلين في المساء والسهرة ؟ وهل اكتشفت الولايات المتحدة النفوذ السوري في لبنان اليوم فقط؟ ولماذا تريد أن يرحل الرئيس اميل لحود؟ وماذا يقدم لها سليمان فرنجية الحفيد إذا جاء مكانه مثلا؟

الاجوبة في ثنايا وقائع زيارة السيد وليم بيرنز وفريقه الأمني والعسكري إلى سورية يوم 11 سبتمبر (ياللمصادفة !) وهي تشير إلى رغبة الولايات المتحدة بالقفز فوق الخطاب الاستفزازي الذي أشركت فيه المنظمة الدولية وفرنسا بالمجان ضد سورية، إلى إمكانية التعاون معها.. ولكن أين ؟

ليس في مجلس النواب اللبناني لإصلاح الأذى الذي ألحقه النواب بدستورهم، بل على الحدود السورية العراقية .. وإذا ما كتب لهذا التعاون النجاح ـ والمقدمات تشير إلى ذلك ـ فإن الموقف الفرنسي من قرار التمديد سيصبح كصوت في برية لا يسمعه أحد غير صاحبه، وبضعة مخلوقات شاردة !

وبالمناسبة أكبر إهانة وجهت لفرنسا في الأيام القليلة الماضية تكرار القول إنها ذهبت إلى مجلس الأمن لمنع تعديل الدستور اللبناني، وإدانة التدخل السوري في الشؤون اللبنانية الداخلية، لأن دمشق لم تعطها عقداً بترولياً بقيمة 759 مليون دولار!

إذن القرار الدولي رقم 1559 مع قرار الكونغرس المسمى محاسبة سورية وسيادة لبنان، مع قرار الكونغرس الجديد بشأن حقوق الإنسان السوري ودعم المعارضة، مع حفلة التهديد والوعيد المستمرة منذ بدء الحرب الأمريكية على العراق، جميعها «تنويعات» على رغبة واحدة ! وهي توظيف إمكانات سورية في العراق .. وهو أمر لا تستطيعه سورية ولا تريده في المطلق، وأن أظهرت موافقتها الأولية على التعاون، إلا أن ذلك لا يعدو كونه إعادة إنتاج قاسية للعبة الانتظار المتبادل، وهذا يعني إنشاء معادلة صعبة طرفها الأول تعاون سوري وطرفها الثاني تفهم أمريكي من غير الإضرار بوحدة وسلامة الأراضي العراقية، ومن غير استمرار اسرائيل باستخدام الولايات المتحدة لتحقيق أهدافها التوسعية.

وإذا ما عدنا إلى زيارة المبعوث الأمريكي وليم بيرنز وفريقه الموسع إلى دمشق، والإيجابية التي حرصت العاصمة السورية على إظهارها على خلفية أن لا مصلحة سورية في الاصطدام مع القوة العظمى الوحيدة في العالم، ومع الأخذ بعين الاعتبار آليات العمل التي تم الاتفاق عليها ثنائياً ثم ثلاثياً مع العراق، فسيكون منطقياً مراقبة التحولات في الأيام القليلة القادمة والطريقة التي ستتعامل فيها دمشق مع ملفاتها الإقليمية، علماً أن الإشارات الأولية تدل على أن ورشة إصلاح العلاقات السورية الأمريكية بدأت عملها، وأن موضوع التمديد تم تجاوزه، وأن القرار الدولي رقم 1559..خطير للغاية ولكن سيجد مكانه على الرف !

* كاتب سوري

[email protected]