مسافر زاده ..

TT

تفرسني، والفرس العامية كما أظن أقوى من الغيظ الفصيح، تلك العبارات المطاطة التي يستخدمها الأكاديميون في كتبهم وأبحاثهم كأن يقول أحدهم «يتفق النقاد والفلاسفة العرب على أهمية الخيال..» ثم يكمل الأخ حديثه، وكأن شيئا لم يكن، مع أنه لتوه قال حكما يصعب بكل السبل اثباته.

ولا نريد أن نحرج القائل بتسميته أمام طلابه، فهو ليس وحيدا في هذه الارتكابات التي تجدها بغزارة عند الأكاديميين والنقاد، مع ان الدقة والتدقيق يشكلان جزءا أساسيا من عملهم البحثي.

لا يا أستاذنا الكريم لم يتفق النقاد، ولا الفلاسفة العرب على أهمية الخيال، فالطرفان، وعذرا لحكمك المتسرع، شككا به أكثر مما يشكك زوج غيور ارتبط حديثا بداعرة تائبة، يصدقها تارة، ثم يتذكر ماضيها المجيد فيشتعل القلب غيرة مجنونة، وشكا لا علاج له حتى بالطلاق البائن.

ابن سينا في رسالة حي بن يقظان يشكك بالخيال اكثر من تشكيك ذلك الزوج الغيور، فهو القائل على لسان حي: أما الذي أمامك ـ الخيال ـ فباطل مهذار يلفق الباطل تلفيقا، ويختلق الزور اختلاقا ويأتيك بأنباء ما لم تزود.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فهو يواصل تجنيه ليقرن خيال الشاعر بأكاذيب الأشرين وأوهام السكارى: «ان عادة الكذب والافكار الفاسدة تجعل الخيال ردئ الحركات غير مطاوع لسداد المنطق، بل يكون حاله حال من فسد مزاجه الى تشويش، فلذلك يصح في الأكثر رؤيا الشاعر والكذاب والسكران والمريض والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر».

على جبهة النقاد الموقف من الخيال أردأ وأنكى، فها هو شيخ النقاد العرب عبد القاهر الجرجاني في معرض الموازنة بين الحقيقي والتخييلي في أسرار البلاغة ينتصر للأول، لأن الذائقة العربية المباشرة والسطحية الى حد ما في عصره، ما كانت تسعفه على غير ذلك الحكم، «اذا كان المعنى الحقيقي هو الذي اتفق العقلاء على الأخذ به، والحكم بموجبه في كل جيل وأمة، فمن البديهي أن يكون أفضل من المعنى التخييلي وأقوم منه».

ان انصاف الخيال يا صديقنا الأكاديمي المتسرع في اصدار الأحكام الفضفاضة كجلابيب الأعراب، هم المتصوفة، وتحديدا ذلك الشيخ المهيب الرابض عند أقدام قاسيون محيي الدين ابن عربي، الذي واجه فلاسفة وفقهاء عصره بسلاحهم، فحين أسرفوا في ذم الخيال قال لهم صادقا: الذين ينكرون موهبة الخيال يجحدون قدرة الله.

بهذا السلاح الضخم المهيب، الذي لا ينفع مع الفلاسفة والفقهاء المسلمين غيره، بدأ ابن عربي يعيد الاعتبار للخيال، مفضلا اياه دون ذرة ديمقراطية ونكاية بعبد القاهر وابن سينا على كل وسائل المعرفة «ومن لا يعرف مرتبة الخيال فلا معرفة له جملة، وهذا الركن من المعرفة اذا لم يحصل للعارفين فما عندهم من المعرفة رائحة».

هؤلاء هم الذين اتفقوا على أهمية الخيال يا أستاذنا الجليل، وليس النقاد والفلاسفة، فهلا ساهمت معنا يا ـ يا رعاك الله ـ بتصحيح تلك الأحكام العائمة التي تملأون بها أدمغة شباب يأتي اليكم كأغنية جميلة «مسافر زاده الخيال»، وكل همه أن يحلم ويتعلم ولا شك انه سيخسر الحسنيين معا ان تبخرت أحلامه في جامعاتنا العتيدة، وتخرج من تحت أيديكم بأقل القليل من زاد المعرفة.

[email protected]