المرحلة الجديدة في السلام مع إسرائيل : ضرورة الضبط .. وشروطه

TT

الضبط، كلمة تقال وقلما تحدد أو تمارس. وفي المثيولوجيا المصرية القديمة كان يرمز لها بريشة على إحدى كفتي ميزان، وفي الأخرى الروح. كان يقال لها «ماعت».. وهي وحدة قياس محددة تساوي ثلاثة وثلاثين سنتيمتراً، وهي كذلك تمثل النغمة الأولية للناي. ان «ماعت» هي رمز إله الضبط في ميثولوجيا الفراعنة. والواقع ان هذا الضبط والتحديد هما ما نحتاج اليه في هذه المرحلة الشديدة الحساسية في تاريخ «الصراع العربي الاسرائيلي». ويبدأ الضبط المطلوب من وضوح الرؤية وتحديد المسميات بما يتوافق مع الحالة الموجودة. فنحن الآن نتحدث عن «عملية السلام»، وعن الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية، وكأن كل الاحتلال واحد، اي كأن احتلال الجولان السورية والوجود الاسرائيلي بها مساوٍ للحالة الفلسطينية.

في اعتقادي يجب ان نفرق بين الحالتين. فاسرائيل هي في فلسطين حالة استعمار، بينما هي في مرتفعات الجولان السورية قوة احتلال. هذا التفريق بين الحالتين ضروري حتى تتضح الوسائل والاهداف، والوضوح هو من شروط الضبط في المرحلة الجديدة. فما نتحدث عنه في الحالة الفلسطينية الآن، اي الاتصال السياسي بين القيادة الاسرائيلية والقيادة الفلسطينية، هو عملية «فك للاستعمار» أو انهاء للاستعمار. موقف قريب الشبه بما حدث بين فرنسا والجزائر. بمعنى ان مفاوضات كامب ديفيد، أو طابا أشبه بمفاوضات افيان بين القيادة الجزائرية في المنفى وحكومة فرنسا.

هذا التشابه واضح في أذهان الاسرائيليين، ولكنه ليس واضحا في الخطاب السياسي العربي. فبعد فوز شارون بالانتخابات في اسرائيل تحدث عنه من حوله كما لو انه أشبه بالجنرال ديجول، واعتبروا انه قادر على التوصل «لصيغة سلام» مع الفلسطينيين، وهم يعنون انه قادر على «فك الاستعمار الاسرائيلي» لفلسطين. وفي طابا تحدث شلومو بن عامي، وزير الخارجية في حكومة باراك، بلغة أشبه بذلك عندما قال ان اسرائيل يجب الا تتوقع غير العنف من «شعب يرزح تحت السيطرة الاسرائيلية».

ولكن ما هي دلالة الحديث عن فلسطين بوصفها «مستعمَرة» وليست « محتَلة»؟

نعم هناك حدود فلسطينية متخيلة، ومبنية على قراري الأمم المتحدة 242 و 338، ولكن لم تكن هناك دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. وعليه، تأتي حدود الدولة المقبلة بناء على المفاوضات بين المستعمِر والمُستعمرَ. لم يكن الجزائريون مضطرين لذلك، بمعنى انهم لم ينتظروا اعلان دولتهم أو استقلالهم الذاتي من خلال فرنسا، ولم تتوقف المقاومة أو الحرب الجزائرية «لأن العنف يعطل المفاوضات»، بل كانت هناك مقاومة للاستعمار وفي الوقت ذاته كانت هناك مفاوضات وقنوات دبلوماسية بين فرنسا والقيادة الجزائرية.

الذين يتحدثون عن الاحتلال وعن السلام، يقبلون الحل الدبلوماسي فقط وانهاء المقاومة، لكن الحديث عن الاستعمار يعني ان فك هذا الاستعمار يأتي من خلال القناتين معاً، المقاومة والدبلوماسية، ويجعل المقاومة جزءاً لا يتجزأ من تلك الحالة، لأن المستعمرين يتركون المستعمرات فقط عندما تزيد التكلفة الاقتصادية والسياسية عما يمكن للدولة المستعمِرة والمسيطرة ان تدفعه. ان الذين يتوقعون نهاية الاستعمار الاسرائيلي لفلسطين من دون مقاومة، لا يستطيعون ان يشيروا الى حالة واحدة في التاريخ الاستعماري مشابهة لذلك.

نعم، أنا مدرك ان الاستعمار لم يعد مقبولا الآن في العالم الغربي، ذلك لأن الدول الغربية رسّخت في عقول العالم أن حالة «فك الاستعمار» decolonization انتهت منذ زمن ولم تعد هناك مستعمرات. لكن الحقيقة غير ذلك، كل مؤشرات ما يحدث في فلسطين تؤكد على ان الحالة الاسرائيلية هي حالة استعمارية، ويجب التعامل معها في هذا الاطار مع تبعات ذلك في تطبيق القانون الدولي على حالة شعب يرزح تحت نير الاستعمار، ومراعاة التزامات المستعمر بحق هذا الشعب في الحياة الكريمة.

اذا ما نظرنا إلى الحالة الفلسطينية على هذا الأساس، يصبح مطلوبا من حكومة سلطة الذاتي الفلسطيني اشياء اساسية لانهاء هذه الحالة في الأقل على مستوى الرمزية السياسية والدبلوماسية:

1 ـ يجب على الفلسطينيين انفسهم، وليس على اسرائيل أو الولايات المتحدة أو المفاوضين، ان يقدموا خرائط واضحة المعالم لدولتهم. لا يكفي ان نقول: «القرار 242»، أو خطوط ما قبل يونيو (حزيران) 67. كل الخرائط التي رأيتها مع الفلسطينيين هي خرائط تتحدث عما اعطته اسرائيل لهم اثناء المفاوضات، هنا نقاط حمراء وهناك نقاط صفراء، واخرى بنية، نقاط تقول لنا ان ما تسيطر عليه السلطة الفلسطينية هو كذا، وما تسيطر عليه اسرائيل والسلطة في حكم مختلط هو كذا. تلك هي الرمزية الاسرائيلية. لغة المانح ولكن على جرعات. يجب ان نقلب هذه الرمزية من خلال خرائط واضحة لدولة فلسطين القادمة، خرائط يُحدد فيها كل شيء وبدقة وانضباط شديدين، خرائط نقدمها للعالم وفيها نحدد دولة فلسطين.

2 ـ يجب اعلان الدولة الفلسطينية ثم التفاوض. الدولة لا تخرج نتيجة للتفاوض ولكنها تُعلن بحدودها وحكومتها وارضها وشعبها، وعلى اسرائيل التفاوض معها. انني مقدر لموازين القوى. ولكن يجب الا نخدع انفسنا فنقول للعالم العربي: «الرئيس عرفات»، بينما يقول الاسرائيليون: «تشيرمان عرفات»، مع ان كلمة «تشيرمان» ذات مدلول وظيفي، وهي لا تعني رئيس دولة، ولا رئيس حكومة، وحتى اذا كانت تعني «رئيس» منظمة التحرير الفلسطينية، فمعنى ذلك اننا ما زلنا نتحدث عن منظمة التحرير وليس عن القيادة الفلسطينية بصورتها الجديدة، ببرلمانها ومؤسساتها المختلفة. ان تغيير الرمزية والجلوس الى طاولة المفاوضات بندية هما امران اساسيان.

3 ـ يجب الحديث عن الحالة الاسرائيلية على انها حالة استعمار مع كل ما يعنيه ذلك من قوانين دولية والتزامات على اسرائيل. ان انتظار اسرائيل كي تمنح الفلسطينيين دولة هو أقرب الى مضمون مسرحية صامويل بيكت «في انتظار جودو».

كذلك يجب على العرب انهاء حالة الخلط القائمة الآن، والخاصة بالمسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية وكأن كل الحالات متساوية.

يجب التركيز أولاً على انهاء الاستعمار الاسرائيلي لفلسطين، أما الحالات الخاصة باعتداء اسرائيل على دولة قائمة ومُعترف بها دولياً، مثل سورية أو لبنان، فتلك معادلة أخرى لها سبل أخرى لانهاء الاحتلال، آخرها حل الحرب بين الدول. ان حالة الاستعمار هي حالة عهد مضى لم يبق له الا ذيل واحد هو اسرائيل، ويجب الحديث عن هذه الحالة بدقة، ولا يجب ان نخلط الأوراق بلغة المسارات، واذا كان الاسرائيليون يرون ان شارون هو «ديجول الاسرائيلي» فنحن ايضاً نتمنى ذلك، ونتمنى كذلك ان تكون القيادة الفلسطينية قادرة على ان تقدم لشعبها ما قدمته القيادة الجزائرية ايضاً.

اذن، نحن الآن أمام حالة يجب ان يكون الضبط هو الأساس فيها. ضبط لغة الحديث، وتحديد المفاهيم، والتفريق بين (الاستعمار) و(الاحتلال). كذلك ايضاً يجب ان نفرق ما بين (السلام) و(عملية السلام). ففي الوقت الذي يركز فيه العرب على (السلام)، يركز الاسرائيليون على (العملية). يجب ان نضع نصب اعيننا ايضاً حالة منطقة الشرق الأوسط ككل، شكلها ودور العرب فيها في مرحلة ما بعد السلام.

كل ذلك يدعونا للنظر الى الميزان آخذين في الاعتبار ان أي انقلاب في التوازن، ولو بمثقال ريشة، هو نذير خطر على وحدات القياس الاساسية لموقع العرب في العالم وعلى نغمتهم الأولية كحضارة.

لست ادعي ان ما ورد في هذا المقال قريب من «ماعت».. لكنه محاولة ودعوة من أجل الاقتراب قليلاً.

* استاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون ـ خاص بـ «الشرق الاوسط»