نظرة على العلاقات السودانية ـ الأمريكية

TT

تزامن تسلم ادارة جمهورية زمام الأمور في البيت الأبيض مع بدء محاكمات المتهمين بتفجير سفارتي الولايات المتحدة في كل من نيروبي ودار السلام وتقديم شاهد الاتهام الأول السوداني جمال أحمد الفضل الذي عمل مساعدا لابن لادن عدة سنوات قبل أن يتركه ويقدم نفسه للسلطات الأمريكية، الأمر الذي يشير الى ان ملف السودان قد يشهد حالة من المراجعة، خاصة والادارة الجديدة تريد التحلل من اثقال سياسات الإدارة الديمقراطية السابقة وإعادة النظر في محاور عديدة منها، على رأسها استخدام أساليب الحصار والمقاطعة، كما أشار وزير الخارجية كولن باول.

ويستحسن اللجوء بداية الى ملفات التاريخ لاستخلاص بعض الملاحظات. أولى هذه الملاحظات ان الولايات المتحدة وعلى عهد الادارات الجمهورية تحديدا لعبت أدوارا كان لها تأثيرها في بعض المفاصل الهامة من تاريخ السودان. الاهتمام الأمريكي بالسودان يعود الى عهدي الرئيس السابق دوايت آيزنهاور 1952 ـ 1960، الذي رمى بثقله للضغط على بريطانيا لتتوصل الى تسوية مع مصر بشأن السودان حتى وان تطلب الأمر بعض التنازلات، حيث كان الخلاف بينهما وقتها حول السيادة. واشنطون لم تكن معنية بمستقبل السودان أو السودانيين، وانما كانت مهتمة بالاطار الأوسع للترتيبات الدفاعية التي تعتزم ابرامها لمنطقة الشرق الأوسط وتحتل فيها مصر دورا محوريا، وبالتالي لم تكن ترغب في أن يعيق مستقبل عشرة ملايين من السود هذه الترتيبات كما نقل عن أحد مندوبي الخارجية الأمريكية وقتها. هذه الضغوط اضافة الى قيام الثورة المصرية عجلت باتفاقية الحكم الذاتي ومن ثم الاستقلال. وعلى عهد آيزنهاور طرح موضوع المعونة الأمريكية وأدى خلاف الساسة حولها الى قيام رئيس الوزراء السابق عبد الله خليل بالطلب الى قائد الجيش الفريق ابراهيم عبود بتسلم السلطة، وكانت من اولى قراراته قبول تلك المعونة.

في أواخر عهد الرئيس السابق جعفر النميري تدهور الوضع الاقتصادي حتى لجأ السودان الى صندوق النقد الدولي، لكن النظام استمر في الحكم ومن الأسباب الرئيسية لذلك الدعم السياسي والاقتصادي الذي لقيه من ادارة ريغان الجمهورية، التي وجدت في النميري حليفا قويا في مواجهة الخطر السوفياتي في ليبيا وإثيوبيا واليمن الجنوبي. ووصل هذا الدعم الى التغاضي عن تنفيذ الاتفاقيات التي يبرمها السودان مع الصندوق بعد حصوله على الأموال اللازمة، وفي احدى المرات قامت وزارة الخارجية الأمريكية بتدبير أمر سداد قرض نيابة عن السودان، وهي العملية التي أكتشفها الكونجرس وأمر بعدم تكرارها ثانية. وهذه هي الفترة التي كان النظام يعيش فيها عالة على الخارج، وبالتالي لم يكن مهتما بالتطورات الداخلية، لذا فعندما استنفد النظام أغراضه وأجبر على تنفيذ وصفة الصندوق بدون دعم أمريكي لم يعش بعدها طويلا اثر الانتفاضة الشعبية التي تفجرت في أبريل 1985 بسبب ارتفاع الأسعار ولم يستغرق الأمر أكثر من عشرة أيام ليطاح بالنظام.

ويمكن الأشارة هنا الى ان رحلة السودان الطويلة مع النفط التي تعود بداياتها الى عقب الاستقلال مباشرة، تلقت دفعة قوية عندما قام جورج بوش الأب، الذي كان مندوبا لبلاده في الأمم المتحدة باقناع شركة «شيفرون» بالتنقيب عن النفط في السودان، وهي الجهود التي أتت أكلها بعد خمس سنوات فقط من بدئها العمل واكتشاف النفط بكميات تجارية في العام 1979. لكن المفارقة ان الأمريكان لم يكونوا حاضرين عند بدء تصدير النفط. وفي واقع الأمر فقد كانت هناك جهود قامت بها شركة «أراكيس» التي اشترت «تاليسمان» نصيبها لاحقا بإشراك الشركة الأمريكية «أوكسيدنتال» في الكونسورتيوم الذي اقام شركة النيل الكبرى، لكن المحاولة لم تنجح لرفض السودان وقتها بسبب حالة المواجهة التي كانت سائدة وقتها خاصة مع قيام واشنطون بتوفير مبلغ عشرين مليون دولار في شكل دعم لكل من يوغندا، إثيوبيا وإرتريا في مواجهة السودان.

سياسات الدول الأجنبية تجاه السودان المنطلقة من حسابات خارجية لا تقتصر على الولايات المتحدة، وانما تلازم تاريخ السودان منذ أن اجتاحته جيوش محمد علي باشا في العام 1821 بحثا عن المال والرجال، ثم جاء الفتح الانجليزي المصري ولأسباب تخص بريطانيا في الأساس اذ تخوفت أن يقع السودان تحت السيطرة الفرنسية.

ومع عدم اغفال أهمية العامل النفطي خاصة والرئيس الأمريكي الجديد جورج بوش الابن مثل والده ونائبه ديك تشيني لهما صلات قوية بالصناعة النفطية، الا ان اعادة النظر للسياسة الأمريكية تجاه السودان يمكن أن تقع في الدائرة الأوسع وعنوانها مكافحة الارهاب. واللافت للنظر الشهادة التي أدلى بها جورج تنيت مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية الأسبوع الماضي وتحدث فيها عن الارهاب الذي يشكل أولوية في الهموم الأمريكية.

وفي تقديري من الخطأ النظر الى الافادات التي أدلى بها الشاهد في محاكمة شبكة بن لادن على أساس انها ستشكل أساسا لادانة الحكومة السودانية وتوجيه سياسة واشنطون الجديدة تجاهها. فمثل هذه المعلومات ليست جديدة، خاصة وملف السودان في ما يبدو تتحكم فيه الأجهزة الاستخبارية أكثر من وزارة الخارجية. وفي كتاب دونالد بترسون وهو آخر سفير أمريكي مقيم في السودان 1992 ـ 1995 ما يفيد انه، وهو السفير، لم يعلم بدوافع وضع السودان على لائحة الدول الداعمة للارهاب الا بعد عام كامل من اتخاذ القرار في 1993 ومن خلال دليل استخباري.

ولهذا فان الذي ستسعى له واشنطون، في رأيي، الى أي مدى سيساعدها النظام في السودان على التصدي للظاهرة الارهابية. النظام مد يده منذ العام 1996 عندما أبعد بن لادن عن السودان، بل وتطوع باستقبال فرق أمنية من مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية وذلك في عرض حمله رجل الأعمال الأمريكي الباكستاتي الأصل منصور اعجاز الى النائب الأمريكي لي هاملتون في أبريل 1997. ولهذا فعملية اعادة فتح السفارة الأمريكية وتشغيلها في الخرطوم يمكن أن يكون من أولى الخطوات التي ستتخذها الادارة الجديدة، على الأقل ليكون لها حضور ومتابعة على الطبيعة.

وزارة الخارجية الأمريكية كانت على الدوام مساندة لفكرة الحوار وفتح السفارة، لكنها كانت مغلوبة على أمرها ايام كلينتون، حيث كان القدح المعلى لمجلس الأمن القومي، ويظهر هذا في الاضطراب الذي لحق بقرار الوزارة اعادة الديبلوماسيين وتراجعها عنه في ظرف يوم واحد في سبتمبر 1997 بسبب ضغوط مجلس الأمن. لكن مع وجود باول على رأس الوزارة وبسبب الاهتمامات الأخرى من أمنية ونفطية، فان الوضع سيكون مختلفا. ومع ان عودة الديبلوماسية الأمريكية الى الخرطوم يمكن أن تشكل دفعا ولو معنويا في اتجاه توسيع هامش الحريات، الا انه لا ينبغي اعطاؤه حجما أكبر. فخلاصة النظرة الأمريكية ان الأحزاب الشمالية الحاكم منها والمعارض لا تختلف عن بعضها خاصة عندما يتعلق الأمر بالجنوب. وفي التاريخ القريب ففي اعلان صندوق النقد ان السودان لم يعد مؤهلا لتلقي العون الفني منه وذلك قبل ثلاثة اشهر فقط من اجراء أول انتخابات ديمقراطية بعد سنوات الحكم الشمولي المايوي، مما يشير الى مدى إيمان الدول الغربية بالديمقراطية في الدول النامية.