ماذا بعد سقوط حجر شارون على رأس العالم؟

TT

بعد اقل من 24 ساعة على انتهاء «ليلة السكاكين» في اسرائيل، بدا انه لا يوجد شيء آخر في هذا العالم غير المدعو ارييل شارون!! لم يكن المراقب أو المحلل يحتاج الى اكثر من تلفزيون أو جهاز كومبيوتر، لكي يكتشف ما لا يمكن ان يصدق: كل الاخبار عن شارون، كل التعليقات عن نتائج الانتخابات الاسرائيلية، وكل البيانات السياسية عن مستقبل عملية التسوية، كل التحليلات عن الاحتمالات المقلقة والمثيرة التي باتت تواجه منطقة الشرق الأوسط.

على مدار الساعة لم يكن لدى وكالات الانباء العالمية ما تنقله تقريبا، غير قصة شارون والانعطاف المرضي الكبير، الذي اثبت نفسه مرة جديدة في اسرائيل، بعد أقل من سنتين على تلك الانعطافة المثيرة من مسار بنيامين نتنياهو الظلامي الى مسار ايهود باراك الذي وعد بالضوء، ثم الى مسار شارون الاشد ظلامة! ربما في استطاعة الارقام هنا ان تصرخ بصوت مرتفع: لقد حصل شارون على اعلى نسبة من المقترعين منذ بداية العمل بقانون الانتخاب المباشر لرئيس الوزراء وهي 62.6 في المائة مقابل 56 في المائة حصل عليها سلفه باراك عام 1999، و50 في المائة سبق ان نالها نتنياهو عام 1997.

والمعنى السياسي لهذا الارتفاع النسبي في اصوات الذين ينشدون التطرف والهيمنة والظلامية العنصرية في الدولة اليهودية، هو انخفاض نسبي بالطبع للفرص المتاحة امام التسوية السلمية سواء على مسار اوسلو او في المنطقة عموما.

لقد كانت بالطبع تجربة مثيرة جدا في الساعات الـ24 التي تلت الاعلان عن نجاح شارون بالنسبة الى الذين تابعوا من دون انقطاع شريط الاخبار وردات الفعل، فمن استراليا الى جنوب اوروبا ومن روسيا الى اميركا مرورا بمعظم دول القارات الثلاث آسيا، افريقيا، واوروبا، بدا ان كل المشاغل والهموم تراجعت امام ما حصل في اسرائيل... كما لو ان حجرا سقط على رأس العالم، او كما لو ان وباء ظهر ولن يلبث ان يتفشى ويصيب الجميع.

طبعا يحتاج التعامل مع هذه الظاهرة المثيرة الى ما هو اكثر من ابداء الدهشة، اذ لم يسبق حتى للانتخابات الاميركية المثيرة للجدل كما هو معروف، ان حظيت بمثل هذا التركيز والاهتمام العالميين. والقصة في عمقها وابعادها الحقيقية لا تتعلق موضوعيا لا باسرائيل كدولة ولا برئيس وزرائها الجديد كشخص، (ولو كان يمثل صيغة فريدة في العدوان وصناعة القتل والمذابح على ما يحفل به تاريخه)، بل تتعلق بموضوع السلام في منطقة الشرق الأوسط وبالاحتمالات المقلقة والخطيرة المترتبة على وصول شارون الى رئاسة الحكومة على التسوية السلمية.

وهناك دول كثيرة وخصوصا في اوروبا الشمالية وافريقيا لا يعنيها بالطبع ان يكون الذي صار رئيسا لحكومة اسرائيل شيطانا ازرق قفز لتوه من الجحيم. ولكن علاقة هذا الشيطان بمسألة التسوية السلمية ومستقبل الشرق الاوسط، استدعت من هذه الدول، اولا متابعة ما يجري، وثانيا ابداء حرصها (وهذا امر لافت ومهم) على استمرار مساعي السلام.

وفي الواقع لا يحتاج المراقب الى اكثر من مخيلة خصبة، لكي يرسم لوحة مثيرة، انطلاقا من هذا الدوي الواسع والشامل الذي رافق نجاح شارون: كما لو ان دول العالم تجلس بكل حواسها على مقاعدها في المسرح ثمة جلبة في الزواية الاسرائيلية من الخشبة. ثمة صراخ وتدافع وفحيح يذكر بكلام الفرد ميشال عن «ليلة السكاكين» او «ليلة الكريستا» التي ظهرت في فيلم يصور مذبحة الجنرالات في احدى قاعات الرايخ الثالث ايام النازية.

ثمة هتافات تتصاعد بقوة. يتراجع الضجيج تدريجا ويرتفع صوت اقدام ثقيلة. قدمان ثقيلتان تتقدمان في عتمة المسرح... ثم فجأة تنهال اضواء قوية وكاشفة من كل الاتجاهات ليظهر رجل ضخم يتقدم وهو يستل سكينا ويريد ان يقطع رقبة حمامة تنازع في قفص: انه ارييل شارون وهي حمامة التسوية اما الاضواء فهي من اربع رياح الارض. هل تم ضبط الرجل بالجرم المشهود؟ ربما. او بالاحرى تقريبا. لكن تسليط الاضواء بهذه الكثافة على رئيس الحكومة الاسرائيلية الجديد، يكتسب اهمية كبيرة وله اكثر من مغزى.

قبل الحديث عن هذه المعاني، يتعين القول ان اكثر الشعارات شيوعا واستعمالا في الصحافة العالمية قبيل الانتخابات الاسرائيلية، هو ذلك الشعار الذي اطلقته احدى الصحف الاسرائيلية بالتحديد: «لا تدعوا الفيل يدخل الى غرفة الخزف».

اما عن الفيل فانه معروف تماما وهو ارييل شارون، واما عن الخزف فالامر يحتاج الى كثير من التدقيق، على الاقل لان المقصود بالخزف هنا ليس تلك الآنية الفنية والتحف الخزفية البارعة، بل التسويات السلمية على المسارات الناجزة، كما هو الحال مع مصر عبر «كامب ديفيد» والاردن عبر وادي عربة ومحاولات التسوية على مسار اوسلو.

وفي النهاية وقياسا بالواقع الموضوعي الذي تواجهه التسوية عموما، يصبح من المشروع ان يتساءل المرء، اذا كان هناك فيل يدعى شارون فهل هناك في الواقع خزفيات فنية لم يحطمها ايهود باراك ومن قبله بنيامين نتنياهو؟

في اي حال سيكون من الصعب جدا، لا بل من المستحيل، ان يحاول المرء الآن اضافة حرف او حتى فاصلة الى ابجدية التوصيات العربية الطويلة خصوصا التي تتحدث عن تاريخ شارون الدموي وعن افكاره التخريبية وخططه التي تكفل ابدية الصراع ضد العرب.

طبعا، هذا امر لا يختلف عليه اثنان، لا بل ان معظم دول العالم، حتى تلك التي تنحاز تقليديا الى اسرائيل تملك مثل هذه الاقتناعات عنه، ولكن قد يكون من الاجدى في الواقع التوقف عند أمرين اساسيين:

اولا: ما هي المعاني والابعاد الكامنة وراء هذا التركيز العالمي على فوز شارون؟ وكيف يمكن الدول العربية، ان توظف هذا لمصلحتها او على الاقل لمصلحة سلام عادل في المنطقة؟

ثانيا: ما هي الوقائع الدقيقة التي تجعل المجتمع الاسرائيلي، مثل قشة في مهب الاختيارات تارة تميل الى اقصى يمين وعود باراك بالتسوية وتارة الى اقصى يسار شارون في رفض مستلزمات هذه التسوية؟ وكيف يمكن الدول العربية ان توظف هذا التأرجح لمصلحة سلام عادل في المنطقة؟

في ما يتعلق بالسؤال الاول، لا داعي الى تكرار القول، ان الاهتمام العالمي الواسع انما ينطلق من الحرص على التسوية لا من الحرص على معرفة من سيحكم اسرائيل، واستطرادا فان هذا يعني ان هناك نسبة عالية جدا من الاقتناعات في معظم الدول بضرورة استمرار مساعي التسوية توصلا الى السلام، الذي ينظر اليه كشيء مهم وضروري، يجب عدم حذفه او قتله او الغائه. ولكن هذا يعني في النهاية ان العالم حريص على مراقبة سياسات شارون حيال هذه المسألة، وان هذا الحرص يشكل في عمقه ومعناه فرصة ملائمة امام الفلسطينيين والعرب، لابقاء شارون قيد المراقبة وعدم توفير اي عناصر او مواقف او تصرفات تساعده في تغيير الصورة والقول ان العرب هم الذين لا يريدون السلام.

ان الفرصة التي نشير اليها لم يسبق ان توافرت على هذا النحو من الوضوح والصراحة، فمنذ اتفاق اوسلو تم تغيير خمس حكومات في اسرائيل، ولكن لم يتم التركيز او التدقيق في التغيير ومعانيه كما يحصل الآن، وهذا يعني ان سمعة شارون السيئة وصورته القبيحة سبقتاه الى العالم، الذي يشكل اهتمامه بالانتخابات الاسرائيلية حرصا على مصير التسوية لا على مصير رئاسة الحكومة في تل ابيب كما قلنا.

وهناك نقطة جوهرية ومهمة، يمكن استخلاصها من الموقف الدولي العام، والتركيز عليها في السعي لضمان تصليب هذا الموقف الداعم للتسوية وهي: ان شارون قال دائما وبصراحة فجة كما هو معروف، انه يأتي لينقض وخصوصا اتفاق اوسلو وما ترتب عليه حتى الآن، بينما ظهر واضحا وجليا في كل المواقف ان العالم يطالبه بان يكمل لا ان ينقض.

ولقد ظهر هذا الموقف المهم في كلام وزير خارجية اميركا كولن باول، كما اعلنه مبعوث الامم المتحدة الخاص للسلام تيري رود لارسن ومن اسرائيل بالذات، اضافة الى معظم التصريحات والتعليقات التي اذيعت في العالم وبكثافة غير مسبوقة، وهو ما جعل شارون يواجه منذ اللحظة الاولى وقبل تشكيل حكومته خيارا من اثنين: إما ان يتمسك بسياساته ومواقفه المعلنة التي تدعو الى نقض التسوية مع الفلسطينيين وبهذا سيواجه انتفاضة الفلسطينيين والعرب ولوم العالم، واما ان يستجيب رغبة الرأي العام العالمي ويقبل بمستلزمات التسوية فيواجه ما واجهه باراك من قبله، وخصوصا بعد ارتفاع نسبة التطرف داخل اسرائيل الى الحدود التي جعلته يحصل على 62.6 في المائة من اصوات المقترعين.

اما في ما يتعلق بالسؤال الثاني، فمن الواضح تماما ان الرأي العام الاسرائيلي يواجه حالا من الالتباس العميق والدقيق في مقاربته لمسألة السلام وفهمه لعناصرها ومستلزماتها. وان اعادة التدقيق في ظروف الانتصار الكاسح الذي حققه باراك ضد نتنياهو عام 1999، وهو انتصار قام على شعارات تحقيق السلام «وانهاء مائة عام من الصراع العربي ـ الاسرائيلي في نهاية سنة 2000» (لمن يتذكر) وعلى قرار الانسحاب من جنوب لبنان، تؤكد ان هناك رغبة لدى شرائح واسعة في المجتمع الاسرائيلي بتحقيق السلام.

ولكن التدقيق في ظروف الهزيمة المنكرة التي مُني بها باراك، امام شارون، الذي يدعو الى الاحتفاظ بالقدس ورفض عودة اللاجئين وعدم تنفيذ الاتفاقات، لجهة الانسحابات من الضفة الغربية، يكشف ان الرأي العام الاسرائيلي يريد سلاما يوازي الاستسلام او سلاما بلا ثمن بمعنى انه تحمس للسلام مع مجيء باراك لكنه لم يلبث ان اسقطه عندما تيقن ان عليه ان يدفع ثمنا لهذا السلام! لكن هذا الجنوح الطائش الى التصلب والكراهية، وذلك الجنوح السطحي الى السلام والتسوية يكشفان وجود انقسام مزدوج في اسرائيل، انقسام هائل بين الاسرائيليين انفسهم وانقسام داخل وجدان الاسرائيلي الواحد.

هذا الانقسام هو الذي يشطر المجتمع الاسرائيلي في الوسط، الى درجة ان الحكومات في خلال عقدين، لم تتمكن قط من الحصول على اكثرية مريحة في الكنيست... واذا تذكرنا الآن التآكل المتزايد لحزب العمل من جهة وتكتل ليكود من جهة ثانية، امام الاحزاب المتطرفة الصغيرة التي شنقت باراك وقد تشنق شارون نفسه، يصبح في الامكان فهم تحذيرات الفرد لينتال التي صدرت قبل 18 عاما تقريبا، حيث حذر من ان الانقسام بين الاسرائيليين قد يقودهم الى «ليلة الكريستا» اي «ليلة السكاكين»، حيث تذابح الجنرالات النازيون، ومثل هذه الليالي تذكر بانقسام المملكة اليهودية قبل 2700 عام الى مملكة اسرائيل ومملكة يهوذا.