إلى أين نتجه .. لغوياً؟

TT

كثرت القنوات الفضائية العربية إلى درجة تجعلنا نتمثل بقول الشاعر:
تكاثرتْ الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيدُ ومع أنه ليست كل هذه الظباء صالحة للصيد إذ فيها السمين المكتنز مادة وجمالاً، وفيها الهزيل الفقير مادة وجمالاً ـ إلا أني لست مهتماً، في هذه المقالة، بتقييم هذه القنوات وما يقدم فيها. فما أنا معني به هو لغة هذه القنوات، فقد بلغ بعضها من الإيغال في العامية إلى درجة تَوجّس الخطر على اللغة العربية الفصيحة.

ولست الوحيد الذي يزعجه تكالب العاميات على اللغة العربية في الإعلام العربي وبخاصة المرئي والمسموع، فمن يدرك قيمة اللغة للأمة (أية أمة)، ومن يدرك إلى أي مدى يرتبط الفكر واللغة أحدهما بالآخر، ومن يدرك إلى أي مدى يرقى الفكر برقي اللغة ـ من يدرك هذا أو بعضه لا بد أن ينزعج. وبقدر ما ينتابني هذا الانزعاج كانت تراودني فكرة الكتابة عن هذه العاميات التي غزت بجرأة بعض المواقع الإعلامية، لكني بعد أن شاهدت بعضاً من مقابلة في إحدى القنوات الفضائية العربية، تحولتْ المراودة على الكتابة إلى عزم عليها فكانت هذه المقالة. كانت المقابلة مع مغنية شَدَّني السؤال الموجه إليها فقد سألتْها المذيعة عما إذا كانت تؤدي أغانيها باللهجة المحلية لبلدها أم بغيرها، فأجابت المغنية بأنها تفعل ذلك بلهجتها الوطنية المحلية، وأنها تفعل هذا شعوراً منها بأن واجبها الوطني هو نشرُ هذه اللهجة. وقد استحسنتْ المذيعة الإجابة إلى درجة أن تمنتْ لو أن مذيعي بلدها ومذيعاته يدركون هذا وأنهم يمارسون لهجتهم المحلية في عملهم الإعلامي! فبعد هذا التوجه من المغنية والمذيعة بـ (خاصة) أدركتُ أن من الواجب أن أقول، بل نقول شيئاً. فنحن مع المغنية في أن من حق وطنها عليها نشر لغته وتعزيزها، لكنها نسيت أن وطنها بلد عربي، وأن شعب هذا الوطن عضو من جسد واحد هو الأمة العربية، وأن اللغة الأم لهذه الأمة التي يُعد وطنها عضواً منها، هي العربية الفصيحة وليست عاميته أو لهجته المحلية. وإذا كان أحدنا على وعي بالواجب تجاه وطنه، من خلال نشر اللغة بوسيلة ما، فالحق والمجدي معاً هو نشر العربية الفصيحة لا لهجاتها أو عامياتها حتى لا يتحول إعلامنا إلى حرب لهجات وعاميات. لقد أَخطرت إجابة هذه المغنية ببالي سؤالاً عما إذا كان المغني أو المغنية في العالم العربي على وعي بأن الأغنية وسيلة لنشر لهجة بلدهما. ومع أملي ألا يكون هذا صحيحاً إلا أنه، إن صح، يُعد خطيئة في حق الأمة والوطن نفسه. فالحق والواجب معاً، إذا كان التوظيف اللغوي من معنيات الأغنية واهتماماتها، أن ننظر إلى المسألة من زاوية مختلفة تعطي للأغنية وظيفة لغوية ولكن من الجانب الفصيح للغة، فبدلاً من توظيف الأغنية لنشر العامية ينبغي توظيفها، ضمن توظيفات أخرى، لتهذيب هذه العامية والارتقاء بمستواها حتى تقارب الفصيحة، ولنا في بعض الأغاني دليل على إمكانية هذا. وهذا واجب كتاب الأغنية مثلما هو واجب المغني أو المغنية، فكما على هذين اختيار الكلمات السليمة الجميلة المهذبة، كذلك على كاتب الأغنية أن يرقى بمستوى لغة الأغنية فيرفعها عن المبتذل والسوقي وسخيف الألفاظ والتعبير، وعن ما هو دخيل لا يندغم في نسيج اللغة العربية الفصيحة. بهذا الموقف الواعي من هؤلاء جميعاً، ربما تقترب الأغنية من تقديم خدمة للغة العربية الفصيحة ومن الإسهام في نشرها بدلاً من أن تكون عامل تخريب لها. بل إنها بهذا تسهم في الارتقاء بالذائقة اللغوية لدى من يستمع إلى هذه الأغنية السليمة لغة، الجميلة صياغة.

وإذا كان موقفي من إجابة المغنية لم يتجاوز إطار التساؤل، إلا أنه كان موقف دهشة واستغراب تجاه استحسان المذيعة لهذه الإجابة وتمنيها بأن يسمع المذيعون هذا ويعملون به. أستغرب هذا من المذيعة لأنه دعوة صريحة منها إلى أن تكون عامية بلدها هي لغة إعلامه المرئي والمسموع، وأن يُتخذ هذا الإعلام منبراً لنشر هذه العامية. وهذه خطيئة أكبر من تلك لأن أحد جوانب رسالة الإعلام العربي أن «يُجند» أدواته ومذيعاته ومذيعيه، أي إمكاناته البشرية وغير البشرية، لنشر اللغة العربية الفصيحة وتمكينها في الألسن لا عامياتها الإقليمية. وإذا انحرف مذيع أو مذيعة بهذه الرسالة عاملين على تكريس العامية ونشرها معتقدين أن هذا هو الحق والواجب (الوطني) وأنه هو ما تريده الأمة، فقد وصل الأمر إلى درجة الخطر على اللغة من الجهاز الإعلامي الذي يعملان فيه، ووصل الأمر في الوقت نفسه إلى أن نقول لهذا الإعلام: قف، فأنت تُهشّم أحد الأعمدة التي نستند إليها، تهشم عمود اللغة العربية وتنهش جسدها وتشوهه بمخالب لهجات إقليمية تعجز كلها عن امتلاك قاسم لغوي مشترك بين الشعوب العربية.

جميل أن يحب الإنسان وطنه، وواجب أن يحافظ على قيمه وينشرها إن كانت تخدم الإنسانية، لكن الأختين (المغنية والمذيعة) نسيتا أن العربية الفصيحة لا العامية هي إحدى قيم بلدها، وإحدى خواصه المميِّزة، وأحد عروقه العربية النابضة، وأحد جسوره ماضياً وحاضراً ومستقبلاً مع بقية العالم العربي، بل إن لبلدهما (.....) تاريخاً محموداً مع اللغة العربية جَسَّده علماء لا يزالون في الذاكرة ببحوثهم ومؤلفاتهم في اللغة العربية والدفاع عنها. بل إن شعب بلدهما نفسه كان متمسكاً بلغته العربية في وقت كان فيه بعض العرب في بلدان عربية أخرى يتبارون في التحدث بالتركية أثناء محاولة تتريك العرب لغوياً. فماذا استجد في هذا البلد العربي؟! ولماذا مد العامية يكاد يكتسح الفصيحة حتى في حوارات لا يناسبها إلا الفصيحة ومن أشخاص حريين بالتحدث بهذه الفصيحة؟! نَعم إلى ماذا يتجه هذا القطر «العربي» لغوياً؟! فقبل هذه المقابلة بين المغنية والمذيعة وما دار بينهما حول لهجة بلدهما سبق أن نشر في جريدة «الشرق الأوسط» (ع5581 في 10/3/1994م ص17) أن مجلس وزراء هذا القطر «العربي» أقر مشروعاً قدمه وزير التربية يقضي «برفع إلزامية التعليم باللغة العربية في المرحلة الابتدائية، وترك الحرية للمدارس الرسمية للتعليم باللغة التي تناسبها». ومرة كنت أشاهد مقابلة تلفازية في إحدى قنوات هذا القطر «العربي» مع أحد شعرائه الذين لهم صوت شعري متميز فكانت إجاباته بالعامية المحلية. كان هذا الشاعر يقول كلاماً جميلاً مفيداً لكن المؤسف أنه كان بلهجة محلية وكان يفوتني بعضه لهذا السبب. لهذا نتساءل: ماذا يعني كل هذا؟ ماذا يعني هذا الانطباع «اليقيني» لدى تلك المغنية بأن عامية بلدها هي لغته الأم وأن نشرها واجب وطني؟ وماذا يعني أن يمتد هذا الانطباع إلى مذيعي تلفاز هذا البلد ومذيعاته فتكون عامية بلدهم ـ عن قصد ـ هي أداة التواصل بينهم وبين الشعوب العربية، ويختاروا تعبيرات عامية عناوين لبرامجهم، وتُكتب هذه العناوين وفق نطقها غير عابئين بالتهجية الإملائية الصحيحة للكلمة ولا لتمزقها بسبب هذه الكتابة «العجيبة»؟ وماذا يعني أن يتحدث شاعر يستخدم الفصيحة في شعره بعامية لا تفهم تماماً إلا من بعض العرب، والمقام يستدعي التحدث بالفصيحة فهو عن الشعر ونقده؟ وماذا يعني رفع إلزامية التعليم باللغة العربية في المرحلة الابتدائية؟ هل يعني كل هذا اتجاهاً واضحاً إلى العامية في هذا البلد العربي حتى في التعليم والإعلام؟ وهل يعني نجاحاً لدعوة أحد شعرائه إلى العامية من خلال مجلته (....) وغيرها. ان هذا القطر العربي بهذا التوجه وبخاصة في إعلامه، يسهم في إحباط أمل نعلقه على الإعلام العربي بأن يعمل على صهر العاميات الإقليمية في بوتقة الفصيحة، ففي العالم العربي عاميات إقليمية مختلفة، وليس لمذيعة أو مذيع الحق في أن يُروج عامية إقليم ما وينشرها بوعي أو بدون وعي. المذيعة والمذيع يعملان في موقع ذي تأثير قوي في المجتمع وأفراده سواء بالمادة التي يقدمانها أو بلغة التقديم وطريقته. ولأن الحديث الآن عن اللغة لا عن المادة فالمطلوب أن يكون أثر هذه اللغة جميلاً سليماً نافعاً ولن يتحقق هذا إلاّ بلغة عربية فصيحة في ما من حقه أن يُقدم بها، أو بفصيحة ميسرة في بعض البرامج الشعبية التي يصعب استعمال الفصيحة فيها بالنظر إلى أن بعض من تستضيفهم هذه البرامج ومن تُقدم لهم لا يستطيعون التحدث بها أو استيعابها تماماً بسبب أميتهم، وإلا فالواجب أن يكون احترام العربية الفصيحة والتحدث بها مبدأً من مبادئ المقابلات والندوات والحوارات وضابطاً من ضوابطها، وأن يلتزم به ضيف الإذاعة أو التلفاز، مادام ذلك ممكناً، وليس المذيع أو المذيعة فقط. فمن المسؤول؟ كلنا مسؤول. كل فرد عربي مسؤولٌ عن العمل على خنق يقظة العامية في الإعلام وإعاقة اندفاعتها والتكشير لإطلالتها في غير إطارها المقبولة فيه. والمسؤولية الكبرى هي على رجال الإعلام ونسائه، وبخاصة من يملكون أمور التخطيط والتنسيق والتوجيه، وعلى نحو أخص نذكر المذيعين والمذيعات، إذ عليهم ـ جميعاً ـ أن يــتذكروا أنهم يحملون أمانة قيمة مــــــن قيم الأمة وملامح ومقومات شخصيتها وهويتها. يحــــــملون «قيمة اللغة» فهل نبتذل هذه القيمة بالانحدار إلى عامياتها الإقليمية التي لا يفهم بعضنا بعضها؟ هل نحط منها باستخدام هذه اللهجات المتنافر بعضها، المنحرف بعضها عن العربية الفصيحة إلى درجة الغرابة؟ لا. وإذا توهم مذيع أو مذيعة أن عامية بلدهما تملك قيمة تسوغ نشرها وتصديرها وأن هذا النشر ضريبة حــــــبه ووفائه لوطنه، فقد توهم ما ليس موجوداً وما هو خطر في الوقت نفسه. وبمناسبة ذكر كلمة «خطر» استرعى انتباهي إسناد برنامج الأطفال في إحدى القنوات الفضائية إلى مذيع لا يمارس مع الأطفال في برنامجه إلا لغة عامية. ويحرص على تلقينهم بعض الكلمات والعبارات التي لا تُشم فيها رائحة الفصيحة. بل الغريب أنه يفضل، بإصرار، استعمال بعض الألفاظ العامية بديلاً للفصيحة. أذكر مرة أن أحد الأطفال قال: «نَعَمْ» فرد عليه «ما تقول نعم» ويقصد «لا تقل نعم» قل: «أَيْوَه»!. برنامج الأطفال معمل لغة. فلماذا تكون برامج الأطفال في الإذاعة والتلفاز معامل لغة للعربية الفصيحة بدلاً من العامية.

هذا فيما يتعلق بالإعلام المسموع والمرئي، أما عن الإعلام المقروء فربما تقْدم جريدة عربية (أو أكثر) على تخصيص جزء من صفحاتها للكتابة باللغة العامية. وأعرف إحدى الجرائد الخليجية التي تنشر (أو كانت تنشر) بعض المقالات بعامية بلدها. وهذا نغم نشاز في صوتنا اللغوي الذي نطمح إلى مقاربة فصيحه حتى في أحاديثنا اليومية. إن الشكوى لا تزال قائمة من إفساح المكان في الصحافة العربية للشعر العامي إلى درجة الاحتفاء به دون تمييز بين هابطه ورفيعه، فإذا أفسح المكان ـ أيضاً ـ للمقالة العامية زاد توهم البعض لشرعية العامية حتى في المجالات الثقافية، إننا نأمل من رئيس تحرير تلك الجريدة أن يضبط هذا النغم النشاز بعدم نشر أية مقالة بلهجة محلية.

ألا يخطر إذن، في ظل واقع لغة الإعلام الذي لمستُ أحد جوانبه، هذا التساؤل: إلى أين نتجه لغوياً؟ صحيح أن القرآن الكريم أحدُ الدروع الواقية للغة العربية الفصيحة، وأن انتشار التعليم والاهتمام باللغة العربية في إطار هذا التعليم واقٍ آخر، لكن هذا لا يكفي ولا يعني السكوت وألا نفعل شيئاً، لأن تكاثر العاميات في الإعلام من ناحية، والترويج لها «قصداً» في هذا الإعلام من ناحية أخرى، يعني اتجاهاً باللغة العربية إلى العامية من خلال جهاز يُفترض أن يكون أحد الدروع الواقية للعربية الفصيحة رغم ما يحصل فيه الآن من خروقات لها. لست، بهذه الرؤية، أتشاءم أو أبالغ (وإن بدا شيء من هذا للبعض) وإنما أصف واقعاً أقصد به قرع جرس الإنذار من أن يصيب المد العامي اللغة العربية وينال منها. والاستجابة لهذا الجرس تتمثل في احترام اللغة العربية الفصيحة بممارستها. فممارستها مظهر من مظاهر احترامها والاهتمام بها، وممارستها إحياء لها وتنشيط وتطوير، وممارستها في الإعلام بعامة وقنواته الفضائية بخاصة، يعني تقريبها من أن تكون أداة التفاهم والتواصل المشتركة للشعوب العربية، كما يعني وعي العاملين في هذا الإعلام لقيمة الأمانة اللغوية التي يحملونها. ثم إن في بعض اللهجات أو العاميات العربية الإقليمية خصائص نطقية غير مستساغة لغير الناطقين بها، إضافة إلى أنها تبهم دلالة الكلمة أو العبارة، لكن ممارسة العربية الفصيحة تقضي على هذه الخصائص النطقية غير المستساغة والمسببة للإبهام الدلالي أحياناً. إن هذه القنوات الفضائية أشبه بمعمل لغة، ومَدرسة لغة، وكتاب لغة لكل الأعمار وللناشئة بوجه خاص. فهل يَرضى المذيعون والمذيعات أن تكون هذه القنوات معملاً للعامية وكتاباً للعامية ومَدرسة للعامية، وأن يكونوا مدرسين للعامية؟! ولهذا نقترح (مؤكدين) أن تكون درجة التزام المذيع أو المذيعة باللغة العربية الفصيحة واحداً من معايير تقييمهما وتقديرهما.

إننا في العالم العربي نشكو، بين حين وآخر، من هشاشة البنية الثقافية للفرد والمجتمع العربي معاً. وإذا كان الضعف اللغوي مظهراً من مظاهر هذه الهشاشة فهو في الوقت نفسه أحد أسبابها. وإذا كان الواقع اللغوي اليوم للإعلام العربي يزيد الواقع الثقافي تخلفاً بسبب هذه العامية، فالمتوقع أن يصبح هذا الواقع أكثر هشاشة وتخلفاً بازدياد توجه الإعلام نحو العامية وترسخها فيه.

بقي أن أنهي هذه المقالة بثلاثة أشياء: أولها ـ الشكر والثناء لهذه الإذاعات والقنوات التلفازية التي تحترم اللغة العربية الفصيحة وتجعل لها السيادة في الاستعمال مؤملين أن تعم هذه السيادة كل إذاعات الوطن العربي وتلفازاته لا فرق بين الرسمي منها والتجاري، والشكر والثناء أيضاً لهذه الإذاعات والقنوات الفضائية التي تقدم برامج الأطفال باللغة العربية الفصيحة محترمة بذلك لسانه مثلما تحترم عقله وذهنه ونفسه بتقديم مادة تتوازن فيها التربية والتسلية. وثانيها: اقتراح بإنشاء جمعية للغة العربية بدول الخليج العربي (الجمعية الخليجية للغة العربية) تكون رسالتها الجوهرية حراسة اللغة العربية والعمل من أجل نشرها وتغليبها، على أن يكون لهذه الجمعية علاقة تواصل وتفاعل مع مثيلاتها في الدول العربية، وأن تكون خطوة فاعلة في مسيرة التكامل الثقافي بين دول الخليج العربية. أما ثالث هذه الأشياء فهو أملي ألا تكون هذه المقالة صوتاً في واد، وأن يكون لها صدى لدى كل من عنتهم.

* أكاديمي سعودي