الفضاء العام في مصر: صخب مستمر وواقعية معدومة

TT

لفيلسوف القرن الثامن عشر الألماني أرتور شوبنهاور عبارة مأثورة تقول «تدور الطاحونة بدون توقف ولكني لا أرى أي أثر للدقيق». أتذكر هذه المقولة كثيراً حين التدبر في حصيلة نقاشات الفضاء العام المصري الراهنة، وهي في مجملها تدور حول قضايا شائكة أهمها وجهة الإصلاح السياسي والاقتصادي، وهوية تحديث المؤسسات الاجتماعية والثقافية. أما أسبابي فأحصرها في عدد محدود من الانطباعات التي تشي في نهاية الأمر بهيمنة وضع يكاد يجهز على حيوية المجتمع والفكر.

يغيب «الدقيق» عن نقاشات النخب السياسية والثقافية في مصر، أولاً بمعنى الانتفاء شبه التام لفاعليتها المجتمعية. فالأصل في حركة الفضاء العام هو صياغة التوافق حول أولويات المجتمع الأساسية (الصالح العام)، في لحظة زمنية بعينها وتطوير تصورات محددة لطرق وبرامج تنفيذها يفترض أن تقبلها الأغلبية. وعلى الرغم من أن إنجاز هذه الوظيفة يرتبط مثالياً من جهة بالإدارة الليبرالية لترابطات الدولة والمجتمع والمواطن، ومن جهة أخرى بعلاقات قوة متوازنة نسبياً بين القطاعات الشعبية، تسمح لها جميعاً بالتأثير في عملية صنع القرار العام، إلا أنها ليست حكراً على الديمقراطيات وفضائها التعددي. بل أن النظم الشمولية عادةً ما تلجأ بصورة دورية إلى إثارة حوارات حول القضايا الخلافية في وسائل الإعلام والمنتديات الفكرية، تدار على نطاق واسع بواسطة النخب الحكومية، فتخلق لدى أفراد المجتمع المعني قناعة، هي في التحليل الأخير متوهمة، بإمكانية المشاركة في النقاش وتحديد مضامين الصالح العام، بغض النظر عن محدودية اختيارات الفعل المطروحة واقعياً.

أما في مصر فترتب الطبيعة شبه الليبرالية أو التعددية المقيدة للنظام السياسي، وجود فضاء عام شديد. لدينا منذ منتصف السبعينيات، ولا ريب، صحافة حرة وإعلام متنوع ومنتديات للحوار، تختلف توجهاتها الآيديولوجية ومواقفها السياسية، تثير مجتمعة نقاشات مستمرة حول قضايا المجتمع المركزية، إلا أنها وبحكم عاملين رئيسيين لا تنتج توافقاً حول مضامينها: من جهة منطق «النفخ في زق مقطوعة»، المهيمن على تعامل النخبة الحاكمة مع الفضاء العام، ومن جهة أخرى عدم قدرة الفاعلين غير الحكوميين من أحزاب ومنظمات أهلية ومثقفين على التحديد الموضوعي للمشترك بينهم، بل وافتقادهم في بعض الأحيان إلى لغة حوار بناءة تتراجع بها مساحة المحرمات والاتهامات المسبقة. يكفي على سبيل المثال أن ننظر إلى لفظة العلمانية ونسجل أن معانيها تتفاوت من الاتهام بالكفر والإلحاد إلى مجرد التشديد على الطابع المدني للسياسة، أو إلى مدلولات مفهوم التحول الديمقراطي والخلاف حول الدور المجتمعي للدين، لندرك ماهية الصعوبات التي تعترض وجود سجال مفضي إلى توافق عام في السياق المصري.

تقل حصيلة نقاشاتنا في مصر، ثانياً، لغياب الشفافية عن مجمل الفاعلين الجمعيين من جهات حكومية وغير حكومية، وانعدام مصداقيتهم لدى المواطن بالتبعية. ودعونا اليوم ننحي الطائفة الأولى جانباً، ونمعن النظر في الثانية.

لا ينبئ مشهد المنظمات غير الحكومية في مصر بالكثير من الإيجابيات. فعلى الرغم من أن بعضها يضطلع بأدوار هامة في قطاعات حيوية مثل حقوق الإنسان ووضع المرأة وإصلاح النظام التعليمي وجهود محو الأمية وغيرها، إلا أنها في مجملها تفتقد الشفافية والديمقراطية الداخلية، وتغيب عنها بالتالي ذات المعايير الموضوعية الضرورية لنشر ثقافة توافق ديمقراطية.

أما أدلتي فهي متنوعة; فقد بحثت طويلاً عن موازنة سنوية معلنة لأية واحدة من تلك المنظمات فلم أجد. تساءلت مرات عديدة في حوارات مع نشطاء بعضها عن آليات اختيار المسؤولين التنفيذيين والإداريين، فضلاً عن معايير الاستمرارية والتغيير، فلم أعثر على اختلافات جوهرية بين الأنماط غير الحكومية والحكومية، المنطق الشخصاني إن في صيغته الأسرية أو الشللية مسيطر في مقابل غياب ملحوظ لمفاهيم الكفاءة والمسؤولية والمحاسبة وفكرة الحدود الفاصلة بين المنصب العام والمصالح الخاصة.

ففي حين تتميز المنظمات غير الحكومية في المجتمعات الأوروبية على سبيل المثال، ببحثها الدءوب عن آليات غير سلطوية لصنع القرار، كما هو الحال في الحركات المناهضة للعولمة، التي تخول مؤتمرات أعضائها المنتظمة معظم الصلاحيات التنفيذية، في ظل غياب جهاز بيروقراطي بالمعنى الكلاسيكي، تتسم المنظمات المصرية ، بما فيها الأطراف النسوية، بهيمنة النمط الأبوي السلطوي المستند إلى مركزية المدير أو بالقطع المديرة، وهي أو هو لا يتغيران في الأغلب الأعم إلا وفقاً لمقتضيات البيولوجيا أو في الحالات الاستثنائية النادرة التي تكتشف بها فضائح فساد من العيار الثقيل. تزداد الصورة الراهنة قتامة عندما نأخذ في الاعتبار الطابع النخبوي الواضح للمشهد غير الحكومي والضعف البنيوي للعلاقات الترابطية بين فاعليه القواعد الشعبية، أو بعبارة أخرى الهامشية الاجتماعية لدورهم. باختصار أدعي أن الجزء الأكبر من الانتقادات التي توجه إلى الدولة ومؤسساتها على صعيد غياب المعايير الحداثية في إدارة دورها العام وصياغة أنماط تعاملاتها مع المجتمع والمواطنين، ينطبق أيضاً على المنظمات غير الحكومية.

ويصبح من الطبيعي في مثل هذا السياق أن يفقد المواطن ثقته في الفضاء العام، وأن يتحول الفاعل الجمعي في نظره إلى مجسد لعلاقات القوة في المجتمع الظالمة له على الدوام. مسكين صالح أفندي المصري يبحث في حياته اليومية، خاصة حين تنعدم السبل الأخرى، عن جهات ذات مصداقية تعامله بحيادية وموضوعية فتصدمه الدولة بداية، ثم يجهز عليه هذا المدعو المجتمع الأهلي. لدينا في المحروسة فضاء عام أضحى وبدون مبالغة يخلو من معظم أشكال الممارسة الواقعية أو الفعلية للقيم والمثل العليا التي يفترض أن تحكم حركته. فقط أحاديث من رسميين وغير رسميين حول محورية الشفافية ومكافحة الفساد واحترام حقوق المواطن، دون نتائج ملموسة.

مجرد خطاب حول الأخلاق العامة يأخذ صيغ قريبة للغاية من أدب الموعظة الدينية، من شاكلة «لا تسرق» و«الرشوة حرام»، وتسيطر عليه في نهاية الأمر قوى دينية ذات مصداقية نسبية، إما لبعدها عن السلطة أو لرقي عدد من ممارساتها، إلا أنها في سعيها لأسلمة المجتمع، تعمد دوماً إلى تفريغ قضية التوافق من مضامينها المدنية وهي الأهم. ترتبط حيوية الفضاء العام ثالثاً بهيمنة ثقافة سياسية تقبل التعددية.

ولا أعني هنا مجرد الاعتراف أو التسليم بوجود الرأي الآخر بمنطق «الأمر الواقع»، بل الإيمان بأهمية التنوع في الرؤى والأطروحات والبرامج بهدف تحقيق الصالح العام. فثقافة التعددية الحقة إنما تستند من جهة إلى رفض الادعاء بقدرة أي طرف من أطراف اللعبة المجتمعية على الاحتكار المطلق والدائم للإجابة الأفضل (بغض النظر عن معايير الأفضلية هذه) على التحديات الراهنة، ومن جهة أخرى إلى قناعة مؤداها أن ماهية الصالح العام ذاته إنما تتحدد في ظل حوار متواصل بين قوى المجتمع بمواقفها المختلفة.

على النقيض من ذلك يظهر الوضع المصري الحالي غلبة لتوجهات مضادة. فالدولة ومؤسساتها راغبة بالأساس في مناقشة أجندة وضعت هي بنودها بمفردها، واستبعدت منها ما لا يناسبها، أما القوى الأخرى من أحزاب معارضة وهيئات ومنظمات غير حكومية، فتعيد إنتاج جوهر الاستبعاد هذا فيما بينها، إن على أرضية خلافاتها الآيديولوجية، أو بالنظر إلى مدى قربها أو بعدها عن الطرح الرسمي. لا عجب إذن أن يختفي الدقيق وتحترق تدريجياً ماكينة الطاحونة!

* أستاذ بقسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة

[email protected]