عشرون دولارا فقط ثمن جواز سفر إرهابي

TT

تصاعد موجة التخريب والعنف والقتل الذي طال المئات من العراقيين في الآونة الاخيرة، له اكثر من مدلول. فقد تزامنت هذه الموجة مع التوجه الجاد نحو اقامة المؤسسات الدستورية وبناء الدولة العراقية، على اسس حديثة وديمقراطية، وبعيداً عن قيود التخلف والتطرف والاستبداد الذي هيمن على العراق منذ تأسيس دولته الحديثة، وخاصة في عهد التطرف القومي في العقود الاخيرة.

إن القوى البائدة، ومن يدعمها من عتاة الاجرام وعملاء مافيا التطرف الديني الأجنبي وبعض الدول المحيطة، تخشى ان يشق العراق طريقه نحو الديمقراطية ودولة القانون. تلك القوى التي اندحرت بعد التاسع من نيسان 2001، تشعر الآن اكثر من اي وقت مضى ان لا عودة لتسلطها وممارساتها، وأن الابواب تغلق الواحد تلو الاخر في وجهها. والدليل على ذلك هو شكل عمليات التخريب التي تتسم بالعبثية والعدمية، والساعية الى تدمير الحرث والنسل. هذه الممارسات العدمية لا تدل على توازن سياسي، بل على افلاس سياسي وأخلاقي تام. فهي تعلن صراحة، انها تستهدف العراق والعراقيين، ولا يهمها تحرر البلاد من الوجود العسكري الخارجي، ولا تريد للعراق ان يقف على قدميه ليردم الهوة التي خلفها النظام السابق وحروبه ونهبه.

لقد بدأت هذه الزمر تدرك ان العراقيين بأغلبيتهم الساحقة، وحتى أولئك المرتهنون في مدن مثل الفلوجة وتلعفر، اخذوا يدركون ان من جاء الى العراق من المتطرفين الاجانب، ما هم الا موجودات عبثية غريبة متعطشة للدم والدمار، وتريد تدمير العراق والفتك بشعبه، كما دمرت افغانستان وشعبها، وفرض نوع من الحكم على العراقيين يتسم بالجهالة والبربرية والتوحش. وهذا ما يتعارض مع طموح العراقيين بعد ان تخلصوا من اشباه هؤلاء من امثال صدام وأزلامه. فالعراقيون يسعون الآن الى بناء دولة القانون العصرية التي يتمتع مواطنوها بالمساواة والحرية والديمقراطية، والمشاركة في السلطة وتقرير مصيرهم. إن اشد ما يرعب هذه الزمر المندحرة، هو شروع العراقيين بممارسة حقهم في ادارة شؤونهم بعيداً عن القهر والوصاية والفتاوى الكاذبة.

ان نشاط هذه الزمر التدميرية العدمية، ما كان له ان يستمر لولا تلك «الحاضنة» التي خلفها لنا النظام السابق، والمتمثلة في الفساد الاداري وفساد النفس لدى بعض العراقيين. وهكذا رأينا في ذلك العهد البغيض، بعض الآباء او الامهات، يعمدون الى الوشاية بفلذات اكبادهم من اجل الحصول على سيارة او قطعة ارض. ويقيم آخرون طقوس الذل امام رأس النظام وبطانته، من اجل الحصول على مكرمتهم ومباركتهم. وشاع في البلاد تدني ممارسات بعض القضاة والمحامين الى حد اطلاقهم سراح قتلة لقاء مبالغ خيالية، حيث اطلق سراح ابن صدام عندما طالب بعض المزمرين، بالعفو عن «الاستاذ عدي». ولم ينج حتى بعض من حصل على اعلى الدرجات العلمية من اللهاث وراء مكرمات «القائد» للحصول على بعض الامتيازات بحجة الكفاءة. هذه النزعة انتشرت في عهد النظام السابق، وشاع معها الفساد الاداري والرشوة في كل زاوية من زوايا الاجهزة الادارية العراقية، بما فيها الجيش والأجهزة الامنية، التي راحت تحصل على الاموال عنوة من الجنود والمدنيين، اما لدفع الشر او للحصول على بعض المكاسب.

هذه هي الادارة الفاسدة التي ورثها العراقيون من النظام المنهار، والتي يفترض ان تقع على عاتقها حراسة وحماية المواطن العراقي الآن والتي يقوم بعض افرادها الآن، بالتستر على الارهابيين، او فتح المعابر الحدودية، كما حدث اخيراً في تلعفر، لكي يحولوها الى قاعدة للتدمير. ان مبلغ 25 الف دينار عراقي، وهو ما يساوي 20 دولارا، كافية الآن لان تدفع لحارس حدودي لكي يسهل عبور اي فرد لا يحمل تأشيرة سواء كان عراقياً ام اجنبياً، ارهابياً ام صدامياً. ويكفي ان تدفع المبلغ نفسه الى بعض الموظفين في دائرة اصدار الجوازات العراقية الجديدة، للحصول على جواز سفر دون توفر الأوراق الضرورية. ولا ندري كم من الارهابيين قد حصلوا على هذه الجوازات لكي يدخلوا العراق، ويتسببوا في سقوط المئات من الضحايا العراقيين من مدنيين ومن اجهزة الامن والشرطة الفتية. ومن المعلوم ان رواتب جميع الموظفين قد تضاعفت الى حد كبير منذ انهيار النظام السابق. ويفترض ان تتقلص ظاهرة الفساد والرشوة التي تعاظمت وتم تشجيعها من قبل الحكام السابقين.

لكن يبدو ان هذا «البزنس» اصبح ثقافة راسخة لدى بعض العراقيين. لقد اضحت الرشوة والفساد الاداري ظاهرة تطال العديد من المؤسسات المدنية، وابتلي بها حتى بعض خصوم النظام ومعارضيه مما يتطلب من المسؤولين وقفة جدية ازاءها. كما يتطلب من مؤسسات المجتمع المدني القيام بحملة وطنية شاملة لاجتثاث هذا الفساد الذي يعد حاضنة للارهاب والعنف وتدمير الحياة السياسية في البلاد.

وتشجع السياسة الامنية المرتبكة للحكومة الانتقالية الارهابيين على اختلاف الوانهم. فاستخدام العنف هو احدى وسائل الحد من ظاهرة العنف، ولكنه ليس الوسيلة الوحيدة.

فالإعلام، والتنوير والصلة الدائمة بالمواطن وهمومه، والشفافية، وتعريف المواطن بمجريات النشاط الارهابي، وعدم تضارب تصريحات المسؤولين، والقدوة الحسنة للمسؤول، والترفع عن الفئوية والحزبية الضيقة، هي امور تزيد من ثقة المواطن بالحكومة، وتعزل الفئات المعادية للشعب. كما يترتب على الحكومة اتباع منهج شامل لجذب المواطنين للمساهمة الواسعة في ردع قوى الظلام، وعدم التردد في كشف زمر القتل والتخريب، وعدم تهميش المواطنين وتحويلهم الى متفرجين على هذه المأساة وضحايا لها.

ان المنظمات الارهابية العراقية منها او الاجنبية، تستخدم الاعلام والترويج للارهاب بشكل فاعل. وهذا ما تفتقده الحكومة المؤقتة. فالعراقيون يلاحظون، ومن على شاشة التلفزيون، وجود مراسلي «التلفزة الارهابية» في وقت اندلاع اي اشتباك او حالة تفجير. مما يدل على وجود تنسيق تام بين هذه الشبكات الارهابية وبين بعض المحطات المعروفة. وتقوم هذه المنظمات الارهابية بحملة تضليل عبر بعض المحطات التلفزيونية للتغطية على افعال الارهابيين وتبريرها دون ان تجد من يكذبها او يردعها. ان العديد من هذه المحطات قام بالترويج، على سبيل المثال، لأخبار كاذبة حول التغلغل الاسرائيلي في العراق، والذي لا وجود له. وقد عبر احد الصحافيين الفرنسيين الذين زاروا العراق عن ذلك بقوله: لم اجد اي اسرائيلي في العراق، ولكنني وجدتهم معي في فنادق العديد من العواصم العربية. وتصر مذيعة احدى الفضائيات في برنامج خاص على دور عملاء الموساد في اغتيال العلماء العراقيين وأساتذة الجامعات، ضمن مساعي بث التشويه والبلبلة السياسية ضد الوضع الراهن في البلاد. لكن واقع الحال يشير الى ان من يقوم بهذه الافعال هم انصار النظام السابق، وعتاة الاجرام، والمتطرفون الاجانب.

وتطرح على الحكومة المؤقتة مهمة شاقة تتمثل في تجفيف المصادر المالية للارهابيين. ذلك ان ما تقوم به هذه القوى الارهابية يدل على تمتعها بقدرات مالية ضخمة.

ان امام الحكومة مهمات شائكة وبالغة التعقيد في مجال مواجهة سرطان الارهاب الذي يعصف بأرواح العراقيين، ويتطلب الحزم واستكمال بناء الاجهزة الامنية من ناحية، ومن ناحية اخرى النشاط السياسي الفعال داخلياً وخارجياً لفضح هذه الزمر وعرض رموزها على الشعب.

* كاتب وسياسي عراقي مقيم في لندن

[email protected]