سؤال الساعة: لماذا تصالح التطرف مع انحرافات الإنترنت.. ولماذا حارب التقنية..؟

TT

عاشرت الانترنت صباحا ومساء وحلما منذ منتصف عام 1996، مررت خلالها بسلسلة من التجارب والتحولات المهنية والتقنية.

استرجع حصيلة التجربة في أوقات متفاوتة اكتبها أحيانا، واكتفي بتذكرها أحيانا أخرى، وتبقى منظومة من الأسئلة تلاحقني وتشغلني طوال الوقت وأراها تتفجر مع سلسلة العنف الرهيب المقدم للعالم باسمنا جميعا دون استثناء مهما كانت المبررات، ويتجسد جماع تلك الأسئلة في الآتي:

* كيف نفذت الانترنت من قوائم الممنوعات.. ولم يصبها فيروس التشكيك والتخويف والترهيب من قبل تيارات دينية وتنظيمات اسلامية ومفتين مجتهدين، كما هو الحال مع كل تقنية حديثة ووسيلة اتصال او إعلام جديدة..؟! وكيف لم تحرم، وهي الوسيط الهائل والضخم الحامل لكل المتناقضات بدءا من البحوث والمعلومات الوفيرة إلى الشذوذ الأخلاقي بكل أبعاده الحادة، كما قدمها الخطاب الديني؟ وكيف لم يحدث ذلك ولو (شكليا) كما جرت العادة. وكيف نفذت الانترنت من إشكاليات الخوف والتردد ولم تواجه بذلك النوع من الخطاب الصاخب او الهائج الذي واجهته المحطات الفضائية بل التلفزيونات المحلية الخاضعة لسياسة الدولة، كما حدث مع الإذاعة.. مرورا بكل التقنيات الحديثة، وكما يحدث الان مع الهاتف الخلوي ـ الذي ينقل الصوت والصورة ـ (ابو كاميرا).. حسب التسمية المحلية السعودية.

وهل كان سبب تجاهل الانترنت من هجوم الخطاب المتطرف تعذر المنع تقنيا..؟

قد يكون ذلك جزءا من الاعتقاد السائد، لكن في كل الحالات لم يكن المبرر التقني مطروحا في ذهنية لا تملك الكثير من التصور حوله. لم يكن مجال بحث أو سؤال للفتوى التى تسارع الى مواجهة الوسائل الحديثة والتقنيات بالمنع او التحريم اولا...؟

إذا.. لماذا لم تواجه الانترنت بالتحريم والتحذير والغلو الذي ووجهت به التقنيات الأخرى... من الستينات إلى اليوم...؟!

قبل محاولة التحليل لنحاول الاجابة على السؤال التالي:

* كيف تمت محاصرة الإعلام المحلي والمثقف العربي والمفكر في أكثر من بلد عربي، على الرغم من تحفظه والتزامه - ليقدم للعامة على انه عميل، علماني وممسوخ...الخ... من التهم التي يقدم بها الاعلام والاعلاميون العرب، ويرددها العامة عن جهل بحسن نية ساذجة احيانا، وبسوئها في احايين اخرى، حتى صارت الصحف ومحطات التلفزة، وكأنها مقر للنشطين من الشياطين من كتاب وصحفيين ومثقفين، الذين يريدون فجور وفساد وانحلال المجتمعات، كما يقدمهم خطاب الغلو الديني المتطرف!

وتلك لغة تتكرر في المساجد و(موثقة) في الأشرطة، بل وصلت حتى الى المدارس، في أسلوب هجوم وضغط وتعبئة متواصلة لم تتوقف حتى الساعة.

بعد (الفاصل الإعلامي) قد نجد في التساؤلات الأولى الخاصة بالانترنت إرهاصات الإجابة على التساؤلات الخاصة بالإعلام..

لم يجد الفكر المتطرف بعنفه وتنظيمه في الإعلام منفذا للوصول إلى الناس، لتمرير أهدافه، ولم يجد ذات المساحة التي وجدها في المدرسة والمسجد - للأسف- وفي نوايا مجتمعات بسيطة ومتدينة بطبيعتها، ولم يجد في الاعلام نفس الحرية التي وجدها في الأشرطة ومحافلها وأنشطتها المختلفة، لذا مارس هذا النوع من الترهيب الضاغط عل وعسى أن يجد البعض من المتنفس هنا او هناك، ولم ينجح في الغالب على مسار الإعلام، سواء بعض رجاله - او المتفقين معه في الإطار الفكري العام - الذين تمكنوا من النفاذ إلى الإعلام عبر محطات التلفاز المحلية او صفحات باردة في بعض الصحف..؟ لكن ذلك لم يكن قادرا على تلبية تطرفه وعنفه وجموحه للسلطة بكل أشكالها وبأي ثمن او وسيلة....

وحين أقبلت الانترنت ومنذ وقت مبكر وجد فيها التطرف والغلو منفذا غير مسبوق، ووسيطا جديدا للوصول الى مساحات ابعد يتجاوزها الشريط، او المحاضرة او الندوة او التجمع، إلى مدارات ابعد هي اقرب للعالمية.. للتنظيم على مساحة الدولة ومن ثم الإقليم إلى العالمية...؟ فوضع مواقعه وشبكاته وقدم أفكاره ونظم صفوفه في زحمة هائلة لمعلومات متناقضة جدا على شبكة عالمية هي الانترنت..

فكيف إذا لفكر يعتقد انه يعاني من ضغوط وتحجيم الواقع لطموحه، (الواقع الكافر أصلا في اعتقاده)، ان يرفض هبة او (غنيمة) عظيمة اسمها الانترنت، او يمارس معها خطاب التحريم او المنع او الكراهية، وهي تمنحه اتصالا دائما وحشدا للمزيد من الاتباع وتلبي له طموحاته التنظيمية لمساحات شبكية تمتد في جغرافيا العالم..؟!

الاكيد ان الفكر الديني المتطرف استثمر بنجاح وتفوق الشبكة العالمية للمعلومات بكل خدماتها، في الاتصال ونقل المعلومة، بل واستخدمها ايضا في ممارسة ضغط نفسي ومعنوي خطير على المجتمعات العربية والاسلامية ورموزها الثقافية والاعلامية وحتى الرسمية باستخدامات عدة، مستفيدا من الاسماء الحركية لاستخدام شخص واحد، او اسم حركي واحد تستخدمه الجماعة، حتى لا يسمح للاخر مهما كان بمواجهته او الحديث بصوت غير صوته او لغة غير لغته، او فكر غير فكره لا ان يكون متعاطفا او متفقا معه.. او كلاهما!!

وهذا ما يفسر وجود خدمة الانترنت لدي الغالبية المنتمية او المتعاطفة مع هذا الفكر واتجاهاته التنظيمية، وحتى لدى التابعين دون إدراك، تجد الانترنت في منازلهم دون ان تجد جهاز تلفزيون يقدم المحطات المحلية التابعة للدولة! بل تجد انترنت متصلة بالفضاء مباشرة دون المرور عبر وكيل الخدمة الرسمي للانترنت في هذا البلد او ذاك! او حصيلة هائلة من (البروكسيات) التي يمكن لها ان تتجاوز القوائم المشفرة من المواقع الممنوعة..

فالسلطة هنا له - والحديث دائما عن السلطة - وليست لوسائل إعلامية تتبع الدول العربية الكافرة عن بكرة أبيها - في اعتقاده ومنظريه - وهذا واحد من ابرز أسباب التغاضي عن هذه الشبكة العنكبوتية، غير الخاضعة لسلطة وزارات الإعلام ونفوذ الدولة المنافسة لهم في السلطة، وشياطين الصحافة.!! وهذا ما يفسر أيضا ذلك التغاضي (المتفق عليه) عن الانترنت بكل ما تحتويه من مكونات هي في الأصل (شرور ومنكرات لا يجوز التغاضي او السماح بها في ابسط قواعد وإحكام وأصول وثوابت هذا الفكر.. كما يعرض هو نفسه في مضمون خطابه دائما.!).

لكن الغاية تبرر الوسيلة كما يبدو بوضوح تحديدا، ولذا كانت الانترنت سلاحا ذا حدين، لكن الوسائل الإعلامية الأخرى هي سلاح ذو حد واحد فاسد، الحكومية منها.. او ما تقع تحت سلطة عملاء الصحافة، ولذا جند التنظيميون والمنظرون جهودهم لتمييع اي فتوى من شأنها أن تحرم استخدام الانترنت بشكل مطلق، او تحجيم استخدام هذه الغنيمة (الانترنت!)، عكس أي وسيلة جديدة أو وسيط آخر حديث، فأصبحنا أمام واقع لا تشاع فيه اي فتوى مطلقة بالتحريم في شان الانترنت، فيما تشاع وتوثق عشرات الفتاوى الشرعية ودعايات المقاطعة والجهاد مع وسائل أخرى اقل واقل أثرا واخرها حملة كبرى لمقاطعة الهاتف الجوال المصحوب بالكاميرا..!!

والحقيقة غير المعلنة هي أن الانترنت أصبحت ملاذا جديدا و(غنيمة) غير مسبوقة لتقديم أفكار التطرف، وتوحيد صفوف التنظيم الى ابعد نقطة جغرافية ممكنة، لذا وجدت الكثير من الرعاية والاهتمام، وهو ما يفسر أيضا، تكاثر المواقع التي تدعو وتروج للتطرف والضغط والغلو والعنف ضد الآخر(المختلف)، في تفوق واضح وذكي ومبكر في استخدام مكونات شبكة عالمية حرة، ما لبثت أن تحولت، بشكل غير مباشر، إلى وسيلة للدخول إلى الإعلام ذاته من الأبواب الخلفية في مرحلة لاحقة، حيث أصبحت المواقع المتطرفة مصادر إخبارية لبعض وسائل الإعلام التي دخلت في ترويج فكر الغلو والتطرف والاقصاء من باب السبق الإعلامي، او الجماهيرية الغوغائية، من خلال ترويج غير مسبوق لشعارات اعلامية غير مهنية، مثل (منبر- من - لا - منبر - له)..او المنافسين لها!

بالطبع لا يمكن تقسيم الحرية، أو الاعتقاد بأن الانترنت حق لفئة دون غيرها، بل ان جزءا من إثارة وإغراء وغموض وقوة الشبكة العالمية أنها تجمع العالم بكل التناقض الذي فيه، من قمة الشذوذ إلى بيع إطراف وأجزاء الإنسان حيا... نهاية بأعلى مراكز المعلومات قيمة، وقمة منجزات البشرية في رحلات القمر والمريخ ونتائج أبحاثها...الخ

لكن الإشكال (المزدوج) والخطير هنا يكمن، في هذا التضليل المخيف للامة الذي يمارسه هذا الفكر المتطرف لصالح مكاسب سياسية واجتماعية دون رؤية ثابتة كما يدعي، ودون صدق كما يقدم نفسه، بل انه للأسف ومن خلال مواقعه على الانترنت جاهز للكذب والتضليل واستخدام كل الأساليب لكسب معركة (ما) ولو على المستوى الشخصي.. وصولا الى استخدام ركيك للغة وعرض الفكرة مع استحالة النقاش والحوار على اي اسس موضوعية او علمية وشرعية، الى مفردات لا علاقة لها بأي اخلاق انسانية.! في العموم.. من حق اي فكر ان يستفيد من اي وسيلة او وسيط للتعبير عن نفسه، لكن المشكل هنا، هو في تجهيل امة كاملة بدواع خاصة وأهداف سياسية وتنظيمية، وليست شرعية خالصة بالطبع، عكس ما يقدم نفسه تماما.. وعكس نوايا او فهم العامة ممن يتبعون الايقاع دون وعي او رغبة في التفكير او التأمل. ليتحول الاتباع الى لغة وشكل هو الاقرب لتشجيع متعصبين لناد رياضي..!

وأخيرا فمن المؤكد ان التطرف والغلو نجحا بتفوق تكتيكيا وتنظيميا من الاستفادة المبكرة من الانترنت كوسيط او وسيلة ليحولاها لصالحهما، مستفيدين من بحث الناس (او توجيههم) بالفتوى الشرعية طبقا لمصالحهما - من خلال التشريع الدائم لكل منتج علمي أو تقني جديد -التحليل احيانا او التحريم دائما- ،.. اي الموافقة على استخدام هذه الوسيلة او تلك طبقا للاجندة الخاصة به.. مع ان المعيار الشرعي يقول إن (الاصل هو الاباحة)..!

ولكن الإشكال المثير يتمثل في تجاوز كل ذلك حيث منع(حرم) وسائل او وسائط لا تخدم أغراضه او لا توافق شبهة أهدافه مثل الاعلام و(شرع) لأخرى لمجرد أنها (غنيمة) تاريخية لسلطة حالمة - مثل الانترنت- .. وهنا يكمن الفرق بين الإعلام والانترنت في إيمانه واعتقاده...!

*اعلامي سعودي