موسكو في نادي «الحرب على الإرهاب».. بعضوية كاملة

TT

الآن وقد حدث ما حدث من مآسٍ في المدرسة الروسية التي اختُطفت بالكامل، وبمن فيها في إحدى المقاطعات الروسية، في الايام الماضية، نرى الغيوم السوداء الحبلى بالغضب وبالضغائن وهي تتجمع كتلاً فوق العالم الإسلامي والعربي، لتمطره بالكراهية والعنف واللاتسامح.

ليست هذه الخلاصة ببعيدة المنال، إذا ما أخذنا بالاعتبار الإعلان المهم الذي قدمه رئيس الأركان الروسي الجنرال يوري باردونسكي، الذي تضمن عدة نقاط خطيرة، هي أولاً: إن عملية الاحتجاز الدموية إنما خُططت وصُممت خارج البلاد. وثانياً، تأهب روسيا لشن «ضربات إجهاضية»

- emptive strikes pre ضد الإرهاب خارج روسيا وفي الأقاليم غير المستقرة بداخلها.

وقد توج الجنرال الروسي تصريحه، بالإعلان عن مكافآت مالية عالية جداً (بالنسبة لدولة تعاني من صعوبات مالية) لمن يساعد على إلقاء القبض على اثنين من الإرهابيين الشيشان، كازاييف ومسخادوف، اللذين يشك في أن لهما ضلعاً بما حدث من حمّام دم في المدرسة المذكورة. وهذا اسلوب أميركي لاصطياد الإرهابيين.

وإذا كان لهذا الإعلان أن يمر من دون ملاحظة من قبل البعض، فإن على المرء المساعدة على فهم أبعاده الحقيقية، وأهمها أن روسيا (وهي دولة كبرى)، تعلن بصراحة وبصوت عال، عن انضمامها إلى الولايات المتحدة الأميركية في الحملة العالمية لمحاربة الإرهاب. وبكلمات أخرى أصبحت روسيا الآن بكل قدراتها وطاقاتها وخبراتها جزءاً من هذه الحملة، وهي ربما موافقة ضمنياً على القبول «بقيادة أميركية» أكثر خبرة ومعرفة في هذا النوع من الحرب، اضطراراً وتسليماً بالأمر الواقع المضمخ بدماء عشرات الأطفال الذين أزهقت أرواحهم باسم ديننا الحنيف، وبمشاركة عدد من حملة الجنسيات العربية كما يشاع. وهكذا خسر المسلمون والعرب دولة كانت، في أغلب الأحيان، تصمم سياساتها على اساس أنها صديقة للعرب ولعدد من الأنظمة العربية والإسلامية الأكثر راديكالية. صحيح أن روسيا لم تعد كما كانت إبان حقبة الحرب الباردة، «نصيرة» للقضايا العربية التحررية، ولكن السفهاء دفعوا بها لأن تدرج اسمها في صفوف جيش محاربة الإرهاب العالمي، الذي لا يميز بين الإسلام الحق والإسلام المزيف، الأمر الذي يعني ويبرر إطلاق الهجمات الدموية ضد المسلمين الذين يعدون بالملايين في الاتحاد الروسي، بل والذي يبرر كذلك، الضغط عليهم وحرمانهم من ممارسة طقوسهم، ومن الاتصال بأشقائهم من المسلمين في بقية أنحاء العالم: فما دامت الحركات الجذرية الإرهابية هي حركات ترفع شعار الإسلام وتقتل الأطفال وتذبح الرجال والنساء باسم هذا الدين الحنيف، لماذا إذاً لا يحارب الإسلام وتغلق مدارسه وجوامعه التي بقيت مغلقة ومحرّمة طوال عقود عديدة تحت ظل القيادات الماركسية واللينينة والستالينية؟ أليست هذه خسارة لنا وضربة قاصمة لسمعتنا، بالدرجة الكافية لتطوير الانطباع الغربي السائد والقائل إن «المسلم يولد إرهابياً» أو أنه «إرهابي بالولادة».

إن هذه القراءة لإعلان الجنرال الروسي، لا يمكن أن تمر من دون ملاحظة الإدارة الأميركية ومن دون ملاحظة الجمهور الأميركي. فمن ناحية أولى، يمكن أن يعد الإعلان الضمني عن انضمام روسيا إلى جبهة محاربة الإرهاب في الحرب العالمية التي تقودها الإدارة الأميركية، نصراً شبه حاسم للرئيس بوش في سباقه إلى تجديد ولايته في البيت البيض، ذلك أن خلاصة هذا الإعلان تشكل تبريراً واضح المعالم لهذه الحرب، التي يفتخر الرئيس بوش بقيادتها عالمياً. ومن ناحية ثانية، فإن الناخب الأميركي المتردد في اختيار بوش، سيجد في ما حدث من سفك دماء لأطفال ولضحايا أبرياء، ما يكفي من المصداقية التي لا يشوبها الغبار في خطاب الرئيس بوش.

كمتخصص في الاستشراق، ومتابع لقضايا حوار الحضارات والعلاقات بين الشرق والغرب، أجد نفسي في زاوية خانقة الآن. لقد كانت جدليات نقد الاستشراق وتطوير فكرة التلاقح والتفاهم الثقافي، مبتناة في الأصل على افتراض مفاده أن الثقافة الغربية تعاني من «خلل» يتجسد في عدم قدرتها على الإفلات من أطر ثقافية موروثة عامة، تسيء تمثيل الإسلام والمسلمين، بناء على الاعتماد الغربي على الأسطورة بدلاً من الواقع، على المستل السلبي بدلاً من المنتخب الإيجابي من تراثنا وحضارتنا.

لذا فقد كانت حملة «الرد» على الاستشراق، التي تزعّمها الراحل إدوارد سعيد، وانضوى تحت لوائها عدد من أذكى العقول العربية والإسلامية، هي «مبادرة تاريخية» لإصلاح صورة الشرق العربي الإسلامي، إنسانه ومجتمعه، أمام عالم غربي متأهب للحوار الحضاري في عصر الحوارات. الذي حدث، وبعد جهود مضنية لاستدراج العقل الغربي إلى «مائدة الحوار»، هو قيام بعض المخربين بتحطيم احتمالات الحوار عبر استحضار كامل التراث الغربي الملبد بالغيوم حول العرب والمسلمين: العربي اليوم هو طاغية في البيت وهو طاغية في الحكومة، طاغية قادر على قتل المئات ودفنهم في مقابر جماعية. المسلم اليوم (كما يبدو للغربيين) هو سفاك دماء وسفاح لا يحترم الأديان الأخرى، بل ويستبيح حتى حياة الأطفال في مدرسة ابتدائية! وهكذا حطم هؤلاء الذين لا يحسنون شيئاً سوى التفخيخ وصناعة المتفجرات والألغام، مسيرة عشرات الأعوام، من بدايات النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر حتى اللحظة، من التقارب والتفاهم الثقافي والديني الذي يمكن أن يطلق العرب والمسلمين إلى آفاق التقدم ليجدوا لأنفسهم موطئ قدم في عالم اليوم.

* استاذ في جامعة بغــداد