السعودية بعد الطفرة (3) وماذا بعد؟

TT

ذكرت «الشرق الأوسط» في عدد يوم الاربعاء الموافق السابع من شهر شباط (فبراير) 2001، خبرا «طريفا» مفاده ان سيدتين سعوديتين دفعت كل منهما في احد المحلات في مدينة جدة مبلغ خمسة وثلاثين ألف دولار ثمنا لجهاز هاتف محمول مرصع بالاحجار الكريمة. وجاء في الخبر ذاته ان شركة الاتصالات السعودية عرضت في المزاد قبل عدة اسابيع رقمين مميزين من ارقام الهواتف المحمولة، ثمن الواحد منهما يزيد عن مائة ألف ريال. يجري هذا في الوقت الذي تعلن فيه شركة الاتصالات عن تخفيضات دائمة لقيمة الاشتراك في الخدمة، ومع ذلك فهنالك من لا يملكون ارقاما ولا هواتف محمولة، لعدم القدرة، لا لعدم الرغبة. مثل هذا الخبر «الطريف» والعاجل، يعبر عن مدى الفجوة الطبقية التي خلفتها الطفرة. ففي الوقت الذي يملك فيه البعض القدرة على دفع آلاف الدولارات، والبعض منهم ملايينها، على سلع وخدمات كمالية، من اجل الاعلان عن التميز والتفرد من خلال سلع اصبح بعضها متاحا للكثيرين، مثل حكاية الهاتف المحمول، فإن هنالك الكثيرين ايضا ممن لا يستطيعون الحصول على الضروريات. وفي الوقت الذي يعاني فيه البعض من الفراغ القاتل الناتج عن الوفرة المفرطة، هنالك الكثيرون ممن يعانون من الفراغ الناتج عن البطالة وضيق ذات اليد، وكلا الفئتين مرشحة لسلوك اجتماعي خارج السياق الاجتماعي العام، وان اختلفت طبيعة السلوك.

بطبيعة الحال ليس غريبا ان يكون في المجتمع، اي مجتمع وكل مجتمع، افراط في الغنى والثراء في اعلى الهرم الاجتماعي، في مقابل افراط في الفقر والقلة في قاعدة الهرم، فذاك امر طبيعي، بعيدا عن احلام المدن الفاضلة، ومشاريع الطوبا والطوباوية. المهم بالنسبة لأي مجتمع ان تكون الطبقة الوسطى، اي تلك الطبقة الواقعة بين قمة الهرم وقاعدته، هي الطبقة الاجتماعية الاوسع. ففي دولة مثل الولايات المتحدة مثلا، وهي الدولة الرأسمالية التي يقوم نظامها على عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية، هنالك من الاثرياء من هو مثل بِل غيتس، او فورد، وروكفلر، وجيتي. وهناك من الفقراء من يبحث عما يقيم الأود بين النفايات في ازقة هوليوود، وحواري بروكلين، ودهاليز شيكاغو. ولكن لا هؤلاء هم الكثرة، ولا اولئك، بل ان ما بين هاتين الطبقتين المتطرفتين في الثراء والفقر، تقع تلك الطبقة الواسعة، بشرائحها المتعددة، والتي هي اساس كل استقرار اجتماعي، ومن ثم سياسي. فدرجة اتساع الطبقة الوسطى، هي في النهاية من يحدد درجة التوازن بين اقسام الهرم الاجتماعي الثلاثة.

وبالعودة الى الحالة السعودية، يمكن القول ان المجتمع السعودي قبل الطفرة، كان يتمتع بدرجة معينة من توازن نسبي بين هذه الطبقات الاجتماعية الثلاث: قلة صغيرة جدا من الاثرياء، وقلة من المدقعين في الفقر، والكثرة تقع بين هذين الطرفين، اي طبقة وسطى بشرائح متفاوتة. وبطبيعة الحال يجب ان يكون حاضرا في الذهن اننا عندما نتحدث عن الطبقة الوسطى، فإننا نتحدث عن طبقة متغيرة وفق ظروف الزمان والمكان. فالطبقة الوسطى الاوروبية مثلا، ليس من الضروري ان تكون مثل الطبقة الوسطى الهندية، من حيث المستوى الاقتصادي، وان كانتا تتشابهان في الوضع الهيكلي الاجتماعي، وفي التطلعات الثقافية والسياسية المشتركة. والطبقة الوسطى الاوروبية اليوم ليس من الضروري ان تكون هي ذاتها قبل مائة عام مثلا، وعلى ذلك يمكن القياس. والطبقة الوسطى في السعودية قبل الطفرة، قد تعتبر مدقعة في الفقر حين النظر اليها بمقاييس ما بعد الطفرة، بحيث ان الطبقة العليا قبل الطفرة قد تعتبر، وفق هذه المقاييس، مجرد شريحة دنيا من شرائح الطبقة الوسطى بعد الطفرة.

المهم، يمكن القول ان المجتمع السعودي كان مجتمعا مستقرا نسبيا، والى حد كبير، قبل الطفرة. اما بالنسبة لحركة المجتمع المدني قبل الطفرة، فيمكن ادراج ما كان يجري تحت بند التحولات الطبيعية، إن صح التعبير، خاصة بالنسبة لتلك التيارات الفكرية، والحركات السياسية التي كانت تفرزها الطبقة الوسطى ذاتها. بمعنى آخر، لم تكن تلك التحولات والتطورات نتيجة مباشرة للتناقضات الاجتماعية حصرا وتحديدا، بقدر ما كانت نتيجة التطلعات السياسية والثقافية لطبقة وسطى في مجتمع متغير.

واثناء الطفرة، غابت الحدود الطبقية لفترة، ثم بدأت الحدود تعود بعد ان هدأت العاصفة وانخفضت درجة الحرارة. عادت الحدود القاسية والفاصلة بين الطبقات، بحيث بدا ان المجتمع اخذ في الانقسام الى طبقتين رئيستين: قلة في غاية الثراء على قمة الهرم الاجتماعي، وكثرة من المعوزين نسبيا. وعندما نقول «المعوزين نسبيا» هنا، فإن ذلك لا يعني الادقاع المطلق، بل ان المسألة نسبية، من حيث المقارنة بمن يحتلون قمة الهرم الاجتماعي. فمثل هؤلاء المعوزين في المجتمع السعودي اليوم، قد يكونون في كثرتهم اقرب ما يكونون الى الطبقة الوسطى، ولكنهم ليسوا كذلك في التحليل الاخير، حين ينظر الى المسألة وفق زاوية النسبة والتناسب، ولكن هذه قصة طويلة. المهم في الموضوع هنا هو ان الطبقة الوسطى في المجتمع السعودي، آخذة في التقلص شيئا فشيئا، بل هي تتآكل شيئا فشيئا، في ظل انتهاء الطفرة، وعدم الاستعداد المسبق لفترة ما بعد الطفرة، سواء اقتصاديا او ثقافيا. هذا التآكل للطبقة الوسطى له مخاطره الاجتماعية والسياسية، البعيدة والقريبة على السواء.

فمن الناحية الاجتماعية، فإن انقسام المجتمع بعد الطفرة الى قلة في غاية اليسر، وكثرة من المحرومين نسبيا ـ ونكرر هنا: بمعنى مقارنة بمن هم اعلى، وليس على سبيل الاطلاق ـ قد يؤدي الى نوع من التوتر الاجتماعي، قد يترجم الى حراك سياسي، لا يمكن التكهن بالمدى الذي يمكن ان يصل اليه. وفي ظل غياب طبقة وسطى فاعلة، مضافا الى ذلك غياب القنوات الاجتماعية والنظامية، بل والسياسية المناسبة للتعبير السلس عن التوتر، فإن النتيجة قد تكون تصاعدا في وتيرة عنف لم يخبرها المجتمع من قبل. ومن هنا ندرك مغزى تزايد حدة العنف الاجتماعي اخيرا، الذي هو في اعتقادي مجرد مؤشرات اولية، واحتمالات تصاعده، بالرغم من «غرابته» على طبيعة المجتمع، وعاداته وتقاليده، كما يعبر عن ذلك الخطاب الاعلامي. وذلك صحيح، ولكنه غير صحيح في ذات الوقت، بمعنى اننا اذا اخذنا في الاعتبار ان المجتمع لم يعد هو ذات المجتمع، فكيف نتوقع ان تبقى الآليات هي ذات الآليات؟

ومن الناحية السياسية، فإن غياب طبقة وسطى مشبعة، ووجود بقايا طبقة وسطى متآكلة، او هي في طريقها الى التآكل المستمر، ومحبطة، يعني بكل بساطة توفر البيئة الاجتماعية المناسبة لنمو مختلف الحركات والتوجهات الفكرية والسياسية المتطرفة، سواء على هذا الجانب او ذاك. واذا اضفنا الى ذلك عدم كفاية الاوعية والقنوات النظامية للتعبير، وسيادة خطاب ثقافي تقليدي، يعبئ ايديولوجيا وفق مسار واحد من ناحية، وغير قادر على استيعاب المتغيرات الحادثة، على المستوى الاجتماعي المحلي والعالمي، من ناحية اخرى، فإن مدى التطرف، وما قد ينجم عنه من سلوك، يزداد حدة كلما تُجوهلت المشاكل، او رُحّل حلها الى ايام لا يُعرف متى يكون اوانها، او تركت للزمان كي يحلها بطريقته غير المتنبأ بها. فمثل هذا الخطاب ينتج مريديه ورافضيه في آن. من هم على نهجه جملة وتفصيلا، ومن هم على نقيضه جملة وتفصيلا في ذات الوقت، دون السماح لأن تكون هناك نقطة وسطى بين الطرفين. فطبيعته وآليات انتاجه الداخلية لا تسمح الا بأن تكون معه او ان تكون ضده، ولكنها لا تسمح بأن تكون خارجه: لا مع ولا ضد.

خلاصة القول هي ان الطفرة قد افرزت مجتمعا يمكن القول انه مجتمع في حالة هجينية، لم يستطع العثور على ذاته حتى الآن، وما يجري، وما قد يجري، اجتماعيا وسياسيا، ليس الا «اعراضاً جانبية» لبحث هذا المجتمع عن ذات لم يستطع تبين معالمها حتى الآن. قد يُقال انه طالما عرفنا العلة العامة، فأين يكمن الحل؟ وكيف يكون الخروج من عنق الزجاجة؟ سيكون الكاتب هنا كاذبا لو انه ادعى ملكية حل ما، فالحل لا بد ان يكون نتيجة جهد جماعي، ووفق استراتيجية واضحة المعالم، ليست من شأن صاحب هذا القلم، الذي تتوقف مهمته التي يتصورها عند محاولة رسم حدود الصورة. ولكن ذلك لا يعني عدم وجود تصور عام لمثل هذا الحل، او لنقل الحدود التي يدور في اطارها مثل هذا الحل. ففي اعتقادي ان هنالك ثلاثة محاور يجب ان يدور الحل، او البحث عن حل، في اطارها: محور ثقافي، ومحور اقتصادي، ومحور اجتماسياسي (اجتماعي ـ سياسي).

المحور الاول، اي المحور الثقافي، يدور حول ضرورة تكوين خطاب ثقافي ـ تربوي يعبر عن التغيرات الاجتماعية الحادثة من ناحية، وعن اندماج المجتمع الحتمي في عالم يتحول الى كيان واحد شيئا فشيئا، من ناحية اخرى. خطاب ثقافي ـ تربوي يعبر عن قيم العلم الحديث، ومفاهيم التسامح والانفتاح والتفاعل والتنافس بين بني البشر، والمساواة الاولية بين افراد المجتمع، الذكور منهم والاناث، من اجل تكوين عقل قادر على استيعاب حقيقة العالم المعيش فيه وتحولاته. فليس من المعقول مثلا ان تصل امرأة من هذا المجتمع الى مركز قيادي، في منظمة دولية، او ان تقوم طبيبة منه بتجربة طبية فريدة، واخرى تكتشف علاجا على مستوى عالمي، وكل هذا الكم من كاتبات يملأن صفحات الصحف، وتحتل مؤلفاتهن واجهات المكتبات، في ذات الوقت الذي تعامل فيه ثقافيا وفق مقولات ومفاهيم تنتمي الى مجتمع لم يعد له وجود. وليس من المعقول مثلا، ان تخرّج المؤسسات التعليمية اجيالا من المرتابين والخائفين من العالم الذي يعيشون فيه، في احسن الاحوال، في الوقت الذي يجب عليهم ان ينافسوا فيه، لا ان ينكمشوا خوفا من غزوه الثقافي وغير الثقافي. فالمدينة ليست القرية، والحاضرة ليست البادية، وسعودية اليوم مدن وحواضر. بغير ذلك، فإن النتيجة في النهاية هي اجيال تعيش في وهم خصوصية ثابتة مفترضة، وتفرد مطلق مبالغ فيه، وعداء عالم لا بد في النهاية من التعامل معه، بغض النظر عن مواقف الشجب والادانة، الحب او الكره. ثم لا تلبث هذه الاجيال ان تصطدم بواقع لا يتطابق مع المقولات والمفاهيم المكونة لعقلها، وعندها تنفجر التناقضات سلوكا متوترا لن يكون العنف الا احد نتائجه: فالعقل المتوتر، والعقل المذبذب، لا بد ان ينتج في النهاية سلوكا متوترا، هكذا يقول تاريخ البشر على هذه الارض، ونحن في النهاية من البشر.

والمحور الثاني، اي المحور الاقتصادي، تكمن اهميته في ضرورة «عقلنة» الاقتصاد الوطني، وتخليصه من كل ما يمكن ان يمتص قوته من عوامل غير اقتصادية. عوامل مثل الفساد الاداري، والكسب غير المشروع، وتبديد الاموال العامة، ونحو ذلك من امور ادت في النهاية الى سقوط تجربة النمور الآسيوية في شرق اسيا، وهي التي كانت مهيأة للمنافسة الجادة في عالم لا يعترف بغير المنافسة الجادة. وعقلنة الاقتصاد لا تكون بغير وجود قانون قادر على تأطير العملية الاقتصادية من ناحية، وقطع دابر تلك العوامل التي تمتص قوة الاقتصاد وهي ليست منه في شيء. نعم قد تكون هنالك مصالح ضيقة، فئوية او شخصية او غير ذلك، تمنع عقلنة الاقتصاد بوهم ان ذلك سوف يقضي على تلك المصالح، ولكن الحقيقة ان العقلنة وحدها هي التي ستحافظ على تلك المصالح في المدى الطويل، فيما النظرة الآنية السريعة هي التي تقضي على الاخضر واليابس في النهاية. هكذا يقول تاريخ المجتمعات. فمشكلة البطالة في المجتمع السعودي ،مثلا، راجعة في جزء كبير منها الى عوامل لا علاقة لها بذات الاقتصاد وآليات الاقتصاد.

والمحور الثالث، اي المحور الاجتماسياسي، يكون لبه محاولة خلق قنوات مشروعة، او لنقل تفعيل حركة المجتمع المدني، بعد ان كان مشلولا الى حد كبير خلال سنوات الطفرة، وقبيل سنوات الطفرة الى حد ما، من حيث الاعتماد شبه الكامل على الدولة واجهزتها. فعملية الخصخصة التي تجري حاليا، هي نوع من «الفطام» بالنسبة لمجتمع عاش سنوات طويلة معتمدا على ضرع الدولة. ولكن عملية الفطام هذه لن تكون ناجحة، بل وقد تتحول الى عامل دمار اجتماعي، بعد طول الاعتماد على ضرع الدولة، ما لم يرافقها تفعيل للمجتمع نفسه، من حيث خلق القنوات الاجتماسياسية المناسبة ليعبر المجتمع من خلالها عن نفسه وتحولاته. فالمجتمعات مثل الانهار العظيمة، تفيض من حين لآخر، وان لم تجد سدودا وقنوات مناسبة للتحكم بالفائض من مائها، فإنها تتحول الى قوة مدمرة في النهاية.

وفي نهاية مقال يجب عليه ان ينتهي، رغم انه لا ينتهي، فإن الحديث عن المحور الاجتماسياسي لا يكمل الا حين يركز على اعادة بناء الطبقة الوسطى وتوسيعها، فهي في النهاية الضمان الرئيسي لاستقرار المجتمع ومن ثم السياسة. فالطبقة الوسطى غير المشبعة والمحبطة، لا بد ان تفرز خطابا ايديولوجيا متطرفا، دينيا كان ذاك الخطاب او دنيويا. والطبقة الوسطى الواسعة والمستقرة، تفرز في الخاتمة خطابا مستقرا وسطيا لا يجنح الى الطرفية والتطرف. ومن المعلوم ان الطبقة الوسطى هي التي تفرز الايديولوجيات بصفة عامة، لا الطبقة العليا ولا الطبقة الدنيا، ومن هنا تنبع اهميتها، وتكمن قوتها كعامل من عوامل الاستقرار السياسي والاجتماعي.

حديث الطفرة وما بعدها وما قبلها، حديث يطول، ولكن لا بد ان تأتي لحظة يأتي فيها الصباح، ويتوجب فيها على شهرزاد التوقف عن الكلام المباح.

كل ما اراد الكاتب قوله في مقالات الطفرة الثلاث، هو ان عاصفة الطفرة قد انتهت، ولكن عواصف ما بعدها سوف تكون اشد واقسى. فهل نحاول زرع مانعات الصواعق على ابنيتنا فنحميها، ام نترك الايام تفعل ما تشاء، وكيفما تشاء؟ هذا هو السؤال.. وفيه الاجابة عليه يكمن كل جواب. هذا، والحق من وراء القصد.