الرسالة والإشارات.. في اغتيال عضو حماس بدمشق

TT

تبعث عملية اغتيال عضو حركة حماس عز الدين خليل في دمشق برسالة مهمة الي سوريا، وتحمل في ثناياها اشارات أهم من تل أبيب . تقول الرسالة الموجهة الي سوريا ان الذراع الأمنية الاسرائيلية قادرة علي الوصول الي قلب دمشق ، وان وجود بعض قادة فصائل المقاومة في العاصمة السورية لا يعني بالضرورة انهم اصبحوا في مكان آمن، وان قرار اسرائيل بتصفية قادة المقاومة، خصوصا في حركتي حماس والجهاد، لن يستثني المقيمين خارج الأراضي المحتلة، وبالتالي فإن معركة اسرائيل ضد فصائل المقاومة لن تظل محصورة داخل فلسطين، ولكنها سوف تنتقل الى ما وراء الحدود، وان الاشارات الايجابية التي صدرت مؤخرا من دمشق فيما يخص المفاوضات مع اسرائيل لم تستقبل في اسرائيل، أو انها لن تستقبل طالما ظلت سوريا تؤوي عناصر المقاومة، ولا يكفي ان تغلق مكاتبهم أو تجمد نشاطهم، انما على سوريا ان تقطع كل صلة لها بهم .

في الرسالة أيضا ان اسرائيل بعد احتلال العراق وسقوط نظامه، الذي كان يقلقها بصورة نسبية، أصبحت أكثر اطمئنانا وثقة في انها أصبحت مطلقة اليد، ليس فقط في الأراضي المحتلة، وانما ايضا في المنطقة العربية بأسرها .

في الرسالة كذلك، ما يفيد أن الضوء الاميركي الأخضر الممنوح لاسرائيل، لا يقف عند حدود استباحة مدن وقرى وسكان الضفة والقطاع، ولكن هذه الاستباحة أوسع من ذلك بكثير، حيث تشمل ايضا أية أهداف تحددها اسرائيل في العالم العربي والاسلامي .

في الرسالة أيضا ما يؤكد ان الصراع ليس له سقف أو قواعد، على الأقل فيما يخص الطرف الاسرائيلي، الذي أعطى لنفسه الحق في أن يفعل كل ما يعن له، في أي مكان بالمنطقة، دون مراعاة لأي ضابط أو حرمة .

ان اسرائيل تتحدث احيانا عن قواعد للعبة، لكنها ترى أن تلك القواعد تلزم الطرف الفلسطيني وحده، ففي حوار أجرته صحيفة معاريف مع رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الجنرال اهرون زئيفي، نشر في 18 سبتمبر الحالي، استبعد الرجل ان يقوم الفلسطينيون بشن هجوم علي مدرسة أو مستشفى أو ضد مستوطنة داخل الخط الأخضر، وقال ان عملا من هذا القبيل يعد تقويضا لقواعد اللعبة، عندئذ سأله محرر الصحيفة، عامير ريوبورت، هل لا تزال هناك قواعد لعبة بعد أن قمنا بالخطوة الأكثر تطرفا بتصفية الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي؟ عندئذ كان رده : نعم هناك قواعد لعبة هم يعرفونها، فمؤسسات التربية مثلا لا تمس، ونحن نعلم ان في الجامعات يعمل ويعيش عدد من الارهابيين، وهم يجندون هناك أيضا، لكننا حذرون في التعامل مع هذه المؤسسات ، واذا كسروا الخطوط الحمراء، فإننا سنعاملهم بالمثل .

يتجاهل مثل هذا الكلام الذي يقال للاستهلاك وتجميل الصورة حقيقتين يشي بهما سجل اسرائيل، الأولى انها لا تتخذ موقفا مبدئيا تحترم فيه قواعد اللعبة، وانما هي لا تتردد في انتهاك تلك القواعد والاطاحة بها اذا ما وجدت في ذلك مصلحة لها، والثانية انها تخصصت في انتهاك القواعد والقوانين المتعارف عليها، منذ اللحظات الأولى لإنشائها حين ضربت عرض الحائط بقرار التقسيم، وحتى تصفية الفلسطينيين في عمان وبيروت وتونس وقبرص .. الخ في حين ان المقاومة الفلسطينية التزمت منذ أكثر من عشر سنوات على الأقل، بأن توجه سلاحها ضد اسرائيل في فلسطين وحدها، وكان هذا قرار حركة حماس منـــذ انشائها في عام 1987 وحتى هذه اللحظة .

فيما يخص الاشارات فهي عديدة، ورغم أنني لا أقلل من أهمية الرسالة، الا انني عند زعمي ان تلك الاشارات هي الأهم، وحيثياتي في ذلك ألخـــصها في النقاط التالية :

> ان توجيه تلك الضربة في دمشق تعبير عن التخبط والارتباك وليس الثقة أو الانتصار، ذلك ان المنتصر لا يترك ميدان معركته الحقيقي لكي يلاحق أحد كوادر حماس في ساحة فرعية، ولو انه كان مطمئنا فعلا الى انتصاره ما كان له أن يقدم على خطوة من هذا القبيل .

> انها ايضا تعبير عن العجز في مواجهة المقاومة، اذ بعد أن فشل شارون الذي تولى رئاسة الحكومة منذ ثلاث سنوات في الوفاء بوعده بالقضاء عليها خلال عام، وبعد اقامة الجدار الوحشي، فإنه اضطر الي اعلان الانسحاب من غزة، وفي الوقت ذاته يمارس اجتياحات وقمعا يوميا للضفة الغربية، واستخدم أقصى ما يستطيع من قوة عسكرية في غزة، بعد هذا كله أدرك ان المقاومة ما زالت مستمرة، وما زالت قادرة علي ان توجه ضربات موجعة لجيشه وسياسته، وكما حدث في عملية بئر السبع الأخيرة، وازاء فشله في القضاء علي المقاومة في الداخل ، فإنه اراد ان يغطي ذلك الفشل بالادعاء بأن قيادة حماس في الخارج هي المشكلة للايهام بإنه أدى مهمته في الداخل، وان للفشل عوامل خارجية .

> ان شارون بهذه العملية اراد ان يصرف الانتباه عن مأزقه الخاص، المتمثل في انقسام حزبه وخذلانه له في موضوع الانسحاب من غزة، وفي الحملة الشديدة ضده التي سخرت من قراره بتفكيك المستوطنات في غزة وشمال الضفة، وهو من وصف في اسرائيل بإنه أبو الاستيطان وراعيه الأول، وقد ذهبت تلك الحملة الي حد تهديد بعض الحاخامات باستباحة دمه، حتى تخوفت وسائل الاعلام من احتمال حدوث حرب اهلية في البلاد، وهو ما عبر عنه الحاخام يوسف ديان، في مستوطنة بساجوت واحد نشطاء حركة كاخ المحظورة، الذي قال انه مستعد لاصدار فتوى بقتل شارون، كما فعل سابقا مع رابين، وقد جاءت اقوال الحاخام بعد ساعات من اعلان الشرطة الاسرائيلية في منطقة القدس عن فتح تحقيق في تهديدات هاتفية بقتل شارون وصلت الي الدوائر المختصة، وبعد ايام من رفع لافتات دعت الي استخدام العنف خلال مظاهرة لليمين المعارض لخطة فك الارتباط .

في مواجهة هذه الريح غير المواتية، فإن شارون اراد ان ينقل المعركة الى الخارج، لكي يوحي لمعارضيه بأن ثمة خطرا قادما من وراء الحدود يتعين الاحتشاد لصده، بدلا من التركيز على تصفية حسابات الداخل .

لقد شاءت المقادير ان تتم جريمة قتل عضو حركة حماس في دمشق، قبل يومين من حلول ذكرى انطلاق انتفاضة الاقصى في 28 سبتمبر 2000، ووسط اجواء المراجعة والتقييم لسياسة شارون التي حفلت بها وسائل الاعلام الاسرائيلية، وفي حين اشادت بعض تلك المعالجات بسياسة القمع والتصفية وما أسمته بالارهاب الفلسطيني، فإن كتابات كثيرة ركزت علي فشل ذلك المنهج، وأكدت على أن الحل العسكري وسياسة العصا الغليظة فشلا في تركيع الفلسطينيين وكسر ارادتهم، حتى ان الجنرال والمفكر الاستراتيجي الصهيوني رؤفيني فيدهستور اعتبر ان انتفاضة الأقصى تمثل واحدا من أهم الاحداث التي اثرت وما زالت تؤثر على مصير الدولة العبرية وطابع الحياة فيها، بل وحذر عدد من الخبراء من خطورة تنامي المقاومة الاسلامية في فلسطين، وهو ما عبر عنه الجنرال المتقاعد فرايم سنيه، أحد قادة حزب العمل، الذي قال على شاشة القناة الثانية في التلفزيون الاسرائيلي، ان العقيدة الاسلامية أصبحت تمثل أهم مصدر للمقاومة وتأجيج الانتفاضة، ونصح بالتعجيل بحل الصراع مع الشعب الفلسطيني عبر تسوية سياسية، باعتبار ان مثل هذه التسوية ستقلص دور الاسلام في الصراع، وهو ما يخدم المصلحة الاسرائيلية، أما المفكر الاسرائيلي الكبير أوري باريوسيف فقد ذهب الى أبعد حيث حذر من مغبة عدم حل القضية الفلسطينية وبأقصى سرعة، حيث رأى ان بقاء القضية بدون حل يوسع دائرة العداء للدولة العبرية في ارجاء العالم الاسلامي، واضاف ان المسلمين الفلبينيين والصينيين والاتراك والاميركيين والأوروبيين كما المسلمين الافارقة، يشعرون تجاهنا بعداء شديد كلما ذكر اسم القدس في أي نشرة أخبار، وهذا يمثل بؤرة شعور هؤلاء الناس، ولا يمكن ان نطبع وجودنا ووجود دولتنا في هذا العالم بدون القضاء على كل الاسباب التي تجعل المسلمين في العالم يكرهوننا .

لست من دعاة التعلق بالاوهام، وأكرر هنا ما قلته أكثر من مرة من أن شارون لم ينتصر، وان الفلسطينيين لم يهزموا، ولكن أرجو ألا أكون مبالغا اذا قلت أن الأول يتراجع، وان الفلسطينيين بصمودهم واصرارهم علي المقاومة يتقدمون، حتى اشعار آخر على الأقل. والله غالب على أمره .