سؤال للمواطن الكردي: ما الفائدة من الاستقلال؟

TT

التمسك بالقومية مثل الوقوع في الحب. كلاهما ظاهرتان عاطفيتان يموت العقل على مذبحهما. مهما كانت المرأة سيئة فلا سبيل لاقناع من يحبها بهجرها. كل ما استطيع ان افعله كأب هو ان اقدم النصيحة لابني واترك له الخيار. وهو ما فعلته مع أحد أولادي عندما وقع في حب فتاة اعتبرتها غير مناسبة. لم أكلمه في الموضوع. جلست وكتبت رسالة له اقرب الى تقرير طبي منها الى رسالة ضمنتها كل الحقائق العلمية والموضوعية بشأن الفتاة ثم قلت له: والآن لك الخيار وسأحترم خيارك ولن اناقشك فيه ولكن ارجوك احتفظ بهذه الرسالة.

بنفس هذه الروحية أود ان اكتب رسالة لاخواننا الاكراد. انهم يحبونني ويحترمونني كما اسمع. وانا ايضا احبهم واحترمهم. وكما فعلت مع ولدي من منطلق حبي له، سأفعل معهم. وسأحترم رأيهم في الأخير، وارجو ان يأتي هذا الرأي في اطار حق تقرير المصير الذي ادعو به لهم.

يقال انه لنفهم واقعنا الآن علينا ان ندرس ونفهم تاريخنا. كلا لا أؤمن بذلك. علينا لنفهم واقعنا ان ندرس تاريخ أوربا في القرون الوسطى. كلما اقرأ صفحة من ذلك التاريخ اجدها تنطبق علينا الآن. من ذلك ان اوربا، كانت مجموعة فسيفسائية من القوميات والطوائف في منازعات وقتال مستمر. وكانت الكنيسة تتحكم ورجال الدين يتحكمون في شؤون المجتمع. وكان الناس لا يقرأون غير الكتب الدينية ويقرأونها بلغة لا يفهمونها (اللاتينية). وكانوا يكفرون ويقتلون كل من يعبر عن رأي يخالف ما جاء في تلك الكتب. وكان رجال الحكم يتآمرون ويقتلون بعضهم بعضا من أجل الكراسي. ولم يكونوا يؤمنون بتطور المجتمع. ربما الشيء الوحيد الذي اختلفنا فيه عنهم هو القتل غسلاً للعار. والا فأحوالنا تشابه احوالهم تلك قبل 500 سنة.

كل الدول الأوربية كانت فيها قوميات مختلفة. في بريطانيا كانت هناك سكوتلندا وانجلترا وويلز وكورنوول وايرلندا. وكان لكل منها لغتها وعنصرها وتراثها. وكانوا يتقاتلون باستمرار. ولكنهم بمرور الزمن ادركوا ان ذلك ليس من مصلحتهم. باستثناء ايرلندا اندمجوا مع انجلترا طواعية وتعلموا الانجليزية وتركوا لغاتهم القومية. لا توجد الآن غير قرى قليلة نائية في ويلز ما زالت تتكلم الويلشية. وكذا الامر في ايرلندا. ما جرى في بريطانيا جرى في سائر الدول الاوربية الأخرى. وهذا طبعا من اسرار قوتها وازدهارها ونموها.

بالنسبة للأكراد لا توجد حتى لغة مشتركة بينهم. فحتى داخل العراق لا يفهم اهل حلبجة ما يقوله اهل العمادية. واكراد تركيا يكتبون بالحروف اللاتينية وبقية الاكراد بالحروف العربية. والمشكلة ليست مجرد مشكلة الكلام. انها مشكلة المصادر والادبيات. نحن العرب نحو 300 مليون شخص، ومع ذلك فصحفنا وكتابنا يعانون من ضيق السوق، ونحن نعاني من شحة المصادر والقواميس والموسوعات. كيف سيوفر الاكراد لأنفسهم هذه الوسائل الباهظة الكلفة؟ واللغة العربية لها تاريخ حضاري طويل في زاوية النحو والقواعد والادب والعلوم. اللهجات الكردية ما زالت في حالة بدائية وليس لها ظهير علمي ولغوي عريق.

بانفصالهم عن جسم الأمة العربية سيحملون انفسهم اعباء قاسية هم في غنى عنها وسيضيقون على ابنائهم الخناق. الكردي الآن أمامه هذا العالم العربي الفسيح. الوف الاساتذة والمثقفين الاكراد يعملون حاليا في شتى البلدان العربية بسبب معرفتهم للغة العربية وانتمائهم العراقي. هنا في لندن تجد الاكراد يعملون ويبدعون في شتى مصادر قنوات الاعلام العربي، بما فيها هذه الجريدة.

بكل صراحة، لو كنت كرديا في السليمانية، لما سمحت لأولادي بالذهاب الى مدرسة كردية. فما الفائدة من اضاعة وقتهم في تعلم لغة لا يستطيعون استعمالها علميا ولا حتى ادبيا ولا مستقبل لهم فيها. هذا ما فعلته مع اولادي هنا في بريطانيا. منعتهم من اضاعة وقتهم في تعلم اللغة العربية، سيكون على الطفل الكردي ان يتعلم الكردية أولا ثم يجد انها غير كافية فيتعلم العربية، ثم يجد انها غير كافية فيتعلم الانجليزية. ما هذه المضيعة للوقت والفكر؟

لمع في تاريخ العراق الحديث شتى نجوم الادب كالزهاوي والرصافي وبلند الحيدري ومصطفى جواد وحسين مردان وكلهم من أصل كردي. لمعوا لأنهم انتجوا تحت مظلة الادب العربي، وفي دنيا العالم العربي. لو أن الزهاوي عاش في حلبجة ينظم باللغة الكردية لما سمع به أحد. هناك في الواقع الآن شعراء في كردستان ينظمون بالكردية. لا ادري كم من الناس في العالم سمعوا بهم. انا شخصيا لم اسمع بأي احد منهم. انها مسألة خيار بين ان تكون سمكة كبيرة في قنينة أو سمكة صغيرة في بحر واسع.

تواجه كردستان ايضا عجزا اقتصاديا. وهي لا تستطيع ان تدوم شهرا واحدا بدون نفط كركوك. ولكن هذا حقل قديم وسينفد بعد بضع سنوات، ولا توجد احتياطيات أخرى. احتياطيات النفط موجودة في الجنوب. والنفط ليس ثروة مستديمة على اي حال، وكردستان زاوية جبلية وعرة لا تمر منها خطوط تجارية لتعيش على التجارة والترانزيت كالاردن ولبنان وسورية وجنوب العراق.

المصدر الآخر الوحيد هو السياحة وبالنسبة لكردستان محصورة في اشهر الصيف للاصطياف. ليس فيها مواقع دينية أو اثرية. واذا انفصلت فسيفضل العرب الاصطياف في لبنان أو تركيا أو أوروبا. ستصبح من افقر دول الشرق الاوسط. يشعر الاكراد الآن بكره للعرب بسبب ما جرى من حروب، ولكن هذه الحروب لم تكن لتقع لولا سعيهم للاستقلال الذاتي أو الكامل، خاصة تمردهم على صدام حسين عندما كان يخوض حربا طاحنة مع ايران. اعتبرها مثل طعنة من الخلف. لهذه الحروب في الواقع اساس جيوفيزيائي يرتبط بالصراع بين سكان الجبل وسكان الوادي. هذا شيء مألوف في شتى مناطق العالم. كان موجودا بين انجلترا وسكوتلندا وبين ايران والعراق. لا جديد فيه، حتى في زمن بابل وآشور كانت هذه الحروب جارية بين ميسوبوتيميا وكردستان، انها ليست مشكلة عرب وكرد وانما مشكلة الجبل الفقير والوادي الغني.

للموضوع جوانبه النفسية والاجتماعية. يعتقد الاكراد ان العرب اهملوا كردستان وتركوها فقيرة ومتخلفة. هذا وهم فقد كانت كردستان فقيرة ومتخلفة على طول التاريخ بسبب وعورتها وقلة مواردها وانزوائها عن الطرق التجارية. يأتي الاكراد الى بغداد فيرون الخير والعمران والتحضر. يقارنون ذلك ببلدهم فيتحسرون ويتصورون ان الموضوع اهمال العرب للاكراد. هذا غير صحيح. بغداد هي العاصمة وعاصمة تاريخية ومركز تجاري وسياحي وزراعي. انني طفت العراق شمالا وجنوبا. ووجدت ان الحكومة عمرت كردستان اكثر مما عمرت الجنوب. كل الطرق الرئيسية في كردستان كانت معبدة وبكلفة عالية بسبب الوعورة الجبلية. على عكس الجنوب كانت معظم طرقه ترابية. وبنيت في كردستان فنادق ودور ضيافة ومصايف على عكس الجنوب. واذا ازدهرت المدن العربية كالبصرة والموصل فلا يعود ذلك لتفضيل الحكومة لها على اربيل أو السليمانية. مدن الجنوب مراكز زراعية كبرى وتقع على خطوط التجارة العالمية منذ فجر التاريخ. على الاكراد ان يدركوا هذه الحقائق ويفهموا ان استقلال كردستان سيزيد من انفصال وانعزال المدن الكردية.

بسبب انعزالهم في قرى نائية، حرموا من التعامل المدني، وقد وجدت الاكراد ايضا اصدق المسلمين دينا واخلصهم في التعامل. ولهذا يستخدمهم التجار في بغداد في حراسة مخازنهم وتجارتهم ويعتمدون عليهم.

من ناحية أخرى لا يوجد اي تمييز عنصري ضد الاكراد. وبسبب كونهم سنة، جرى الاعتماد عليهم منذ العهد العثماني وتفضيلهم على الشيعة. تولى الكردي بكر صدقي رئاسة اركان الجيش في الثلاثينات وضرب عشائر العرب في الجنوب واغتال جعفر العسكري واسقط حكومة ياسين الهاشمي العربية القومية. وكنا نحبه اكثر من الساسة العرب. وتولى الكردي سعد القزاز وزارة الداخلية ونكل بنا لسنوات. لم نعترض عليه قط ككردي. اننا نشيد بشجاعة الاكراد واعطيناهم المراكز القيادية في الجيش. لا يوجد اي تمييز عنصري على المستوى الاجتماعي. ويتعطش العربي للزواج بكردية بسبب جمالها. وكانت أول فتاة وقعت في حبها كردية من قلعة دزة.

انعكست هذه الروح الاخوية الطيبة في الحروب التي جرت مع الاكراد. كتبت يوما عنها فوصفتها بحرب الجنتلمانية. لم يحاول الاكراد قط زجها في نشاطات ارهابية. لم يقوموا بأي اغتيالات أو تفجيرات في المدن. ظلت حربا مهنية تجري بين عسكري وعسكري في ساحة قتال. وكنا نجلس مع زملائنا الاكراد وكأن الحرب لا تعنينا بشيء. سمعت بأن بعض الموظفين الاكراد انضموا للثوار ولكنهم في نهاية الشهر كانوا ينزلون من الجبل ويأخذون رواتبهم من دائرتهم. تغير هذا الوضع في عهد صدام فسلط عليهم حملة الانفال واباد حلبجة بالغازات السامة. ولكن شرور صدام لم تكن قاصرة على الاكراد. لقد ضرب بالقنابل حتى ضريح الحسين والامام علي وخلف كل هذه المقابر الجماعية في الجنوب. ما هو المستقبل؟ كردستان العراق لا يمكن ان تقوم وتعيش بدون كركوك. سيعني ذلك حربا اهلية دامية. اذا حصلوا على كركوك فإن نفطها سينضب بعد سنوات ويقتضي عليهم شراء الوقود من الخارج. الثروة المستديمة للعراق توجد في الجنوب زراعيا ونفطيا وتجاريا وسياحيا. استقلال كردستان سيحرمهم من حصتهم في هذه الثروة المستديمة. سيعزلهم ايضا عن المراكز الحضارية الرئيسية. سيحول العرب للاصطياف في اماكن أخرى أكثر فرفشة من كردستان. ليس لكردستان منفذ بحري أو سكك حديدية تربطها بالعالم. سيكون عليها ان تدفع عمولات واتاوات واجورا ورسوما للغير وتصبح تجارتها بيد الاجانب.

يواجه استقلال كردستان مشاكل سياسية مع الدول المجاورة. هل سيمكن التغلب عليها؟ هل سيسمحون بالاستقلال؟ ماذا عن وحدة كردستان الكبرى؟ انه بكل صراحة لا يقل خرافة عن خرافة الوحدة العربية.

الشيء المؤسف بالنسبة للاكراد استعدادهم ليكونوا اداة بيد الاجنبي. استعملهم السوفييت ثم شاه ايران ونفضوا أيديهم عنهم حالما انتهت الحاجة اليهم. يقال شيء كثير الآن عن لعبة مشابهة تقوم بها إسرائيل. اذا نجحت فسيعزلهم ذلك كليا عن العالم العربي. هناك سذاجة في التفكير السياسي الكردي. كنت أتحدث مع مثقف كردي واع وحامل دكتوراه في العلوم السياسية، اثناء الحرب مع ايران وكان الاكراد قد حملوا السلاح ضد بغداد. قلت له: لماذا انتم يا أكراد تورطون انفسكم في هذه المطبات؟ فإذا انتصرت ايران ستضربكم لأنها لن تسمح لكم باقامة دولة. واذا انتصر صدام فسينتقم منكم (وهو ما حدث) اجابني قائلا: «يعني شنو؟ حرب جارية وتريدنا نوقف ما نسوي شيء؟».

بالاضافة للاكراد هناك الآن التركمان والفويلية، وكلهم يلحون ويؤكدون على هويتهم القومية. لن اعجب اذا طالب سكان الاهوار ايضا بقوميتهم المعيدية، واهل العمارة بقوميتهم الشرفاوية ولا ادري مَنْ ايضا. كل هذه النزعات القومية بالنسبة لي صورة من مخلفات القرون الوسطى، تماما مثلما كان الحال في أوروبا قبل خمسمائة سنة. في هذا العالم المعاصر الواحد والمتطور نحو العولمة، لم تعد لمثل هذه النزعات مكانة أو معنى. ليس لديّ اي شك في ان هذه الاقليات ستزول وتذوب في الاجسام الاكبر وتنمحي لغاتها. انها مسألة وقت. والعاقل من يعي دوران عجلة التاريخ وسنة التطور ويراعي المصلحة العملية لأبناء شعبه ولا يضيع وقتهم وجهودهم.

استقلال كردستان في صالح عرب العراق وليس في صالح الكرد. كتبت عدة مرات وقلت ان من الافضل لنا عمليا واقتصاديا التخلص من كردستان لأنها ستكون وستبقى عالة علينا.

ينسى الكثيرون ان كل هذه المحنة التي يمر بها العراق الآن تعود اساسا لكردستان وليس للكويت. في كل عقد من السنين مررنا به منذ العشرينات كانت هناك ثورة وحرب في كردستان ضاعت فيها أرواح الكثيرين والكثير من الاموال. كانت هناك ثورة في السبعينات لم يستطع الجيش اخمادها حتى اضطر صدام الى الاذعان لطلباتهم. ولكنه عاد فانقض عليها. وعادوا الى الثورة. وهنا وجد الشاه بمدها وتأجيجها خير وسيلة للضغط على صدام حتى اضطره للتوقيع على اتفاقية الجزائر التي استسلم فيها لمطالب ايران في شط العرب. وبعد ان استغل الشاه الكرد وحصل على ما يريد تخلى عنهم. فخمدت الثورة في ايام قليلة. سقط الشاه من الحكم فاستغل صدام تمزق ايران ليلغي اتفاقية الجزائر بغزوها. استمرت الحرب ثمانية اعوام اغرقت العراق بالديون، لا سيما ديون للكويت. أوحى ذلك لصدام بغزوها. ترتب على الغزو دخول امريكا للمنطقة ثم فرض العقوبات على العراق واخيرا غزو العراق. تعود كل هذه التطورات الى المشكلة الكردية والثورة الكردية كما اوضحت.

وكلما وجد الكرد العراق مشغولا بحرب، مع ايران، ثم الكويت، ثم الغزو الاخير حملوا السلاح وحاربوا بغداد. دفع ذلك صدام الى التنكيل بهم بأبشع الصور، حملة الانفال وإبادة حلبجة. كل هذه التضحيات والموت والخسائر منذ العشرينات جرى على مذبح القومية. لو كنت في محل اياد علاوي لما ترددت في خلع هذا السن المقلقل ونفض يدي من كردستان.

ولكن هذه أمور عاطفية. العرب ينزعجون اذا سمعوا بانسلاخ كردستان وتقلص مساحة العراق. والكرد ينزعجون اذا ديست هويتهم ولغتهم واستقلالهم. وكما قلت القومية مثل الهوى والغرام. لا محل فيها للعقل. ولكن هذه هي الرسالة التي أود ان أوجهها للمواطن الكردي. ولك الخيار يا سيدي والحق في تقرير مصيرك، ولكن ارجوك احتفظ بهذه الرسالة. ضعها في جيبك واتركها لأولادك.