ردا على رضوان السيد: ولماذا يختطف 11 سبتمبر الدين الإسلامي؟

TT

في مقالته «كيف ولماذا اختطفت أحداث سبتمبر الدين الإسلامي»، المنشورة في الشرق الأوسط الأسبوع الماضي، يحمل د. رضوان السيد مسألة اختطاف الإسلام على عاتق ما يسميه، التيارات العلمية المناهضة للإسلام والمسلمين في الغرب، والتي برأيه تتكون من مجموعة من «المستشرقين الجدد»، والباحثين في حقل «انثروبولوجيا الإسلام». هذه التيارات الأكاديمية اليمينية، حسب رأي د. رضوان، وفي سياق حربها على الإسلام وتشويهه: تشكك في نشأة الإسلام، وتقول بأنه انشقاق عن اليهودية والنصرانية، وأن السبب في تحول الإسلام إلى دين إنما هي الفتوحات العسكرية، ولهذا يتأصل العنف في الإسلام بسبب قيامه على الحرب. الانتقاد الأبرز الذي حملته هذه المقالة هو قول د. رضوان: «تبنى نتائج هذه النظرة دون مقدماتها المستشرق المعروف برنارد لويس». ثم يمضي الكاتب في تعداد مواقف لويس ـ المفترضة ـ والتي تتضمن:

رؤيته بأن العنف متركز في الإسلام العربي، تأثر «المحافظين الجدد» في الإدارة الأمريكية، وكذلك الرئيس بوش الابن بأطروحات لويس الداعية إلى غزو العراق، بحجة أن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة، التأكيد على ضرورة التحالف مع إسرائيل لصد الخطر الأصولي العربي والإسلامي، التشكيك في ولاء المسلمين والعرب في الولايات المتحدة لأمريكا، وللقيم الغربية، ملاحقة المتعاطفين في الوسط الأكاديمي مع القضايا العربية والإسلامية، برنارد لويس هو مصدر نظرية «صراع الحضارات»...

قائمة من التهم التي بات يكررها عدد من المفكرين والمثقفين العرب خلال السنوات الأخيرة، كرد فعل على ازدياد «النزعة التدخلية الليبرالية»، في السياسة الخارجية الأمريكية، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط. توجه الخطاب الثقافي العربي نحو مناهضة السياسات الأمريكية، يستدعي استحضار سياقات انتقادية لتعزيز هذا النوع من الخطاب، وفي حالتنا هذه يجسد التراث اليساري في المنطقة وكذلك خارجها الخزان الهائل لمريدي لعن أمريكا، وتحميلها خيبات الأمل في المنطقة. الأيديولوجيا الإسلامية بدورها التي ناصبت الولايات المتحدة العداء منذ نشأتها، على الرغم من الاستعمال المتبادل، أخذت معظم أدبياتها المتعلقة بنقد أميركا من القاموس اليساري.. كلمات مثل الإمبريالية، الرأسمالية، والهيمنة الأمريكية، أضيفت للقاموس الأيديولوجي الإسلامي دون تغييرات تذكر. وهذا ما يدعونا إلى تأمل مثل هذا النوع من الخطاب في المنطقة العربية، والذي بدأ يدخل مرحلة جديدة من مسايرة التيار الشعبي العام الذي يعاني من «غضب الهوية»، بسبب الأزمات المتلاحقة في المنطقة، وخطاب النخبة العربية المثقفة في غالبه إما مساير، أو مضطر لتقديم إدانات متلاحقة لهذه الجهة أو تلك قبل حديثه كوسيلة لاستحضار الشرعية. إذا أخذنا على سبيل المثال التهم، التي أتينا على ذكرها فإنها رغم ذيوعها وتكررها في خطاب النخبة العربية المثقفة، فهي ليست مبنية على واقع دراسات وبحوث، أو تحليلات لعلاقات «المعرفة» بـ«السلطة» قامت بها هذه النخبة داخل الثقافة الأمريكية، بل هي متلقفة ومعادة النسخ من أصولها في «ثقافة اليسار الأمريكي». التهم التي في الأعلى يمكن العثور عليها في مقالة بحثية منشورة قبل ثلاثة أعوام في مجلة «شؤون أمنية خاصة» لباحثين يساريين وهما جيفري ستينبرق وسكوت ثامبسون، تحت عنوان «سفينقالي بريطاني وراء صدام الحضارات». في هذه المقالة التي تعتبر أول وأبرز تعليق لمحاولة ربط المؤرخ برنارد لويس بكل شرور وآثام السياسة الأمريكية والبريطانية، فيما يخص المستعمرات الكولونيالية السابقة، وعلى الأخص فترة الحرب الباردة، الموجة «العالمثالثية» التي احتوت فلول اليسار، والماركسيين في العالم منذ نهاية السبعينات، وأعادت طرح نفسها أوائل التسعينات ولكن بصور أكثر ليبرالية تمثل صدى «الثقافة المضادة» في السجال الفكري حول العالم، ولذلك فإن معارك معارضي العولمة من «العالمثالثيين» تتوق إلى صنع تماثيل شر هي الأخرى، لكي تقدم القرابين لـ«الألهة الشريرة». أسماء كثيرة من محللي واستراتجيي الحرب الباردة، ومن بينهم لويس، تم ضمهم لـ«محور الشر»، حسب تصنيف اليسار. هذه التهمة أصبحت غير ذات معنى، خصوصاً بعد الحادي عشر من سبتمبر، لأن تبايناً حاداً في المواقف ظهر بين من تم تصنيفهم من قبل اليسار في خانة اليمين. فعلى سبيل المثال الربط الدارج بين برنارد لويس وزبيغنيو بريجنسكي وهنري كيسنجر بوصفهم يهودا متنفعين، يسعون لإثارة المنطقة الشرق، أوسطية بأسرها أصبح مرفوضاً بسبب مواقفهم المتباينة من حرب العراق. زبيغنيو معارض شديد للحرب، كيسنجر يحذر من حرب لا تدعمها الأمم المتحدة، وبرنارد لويس يحذر من استخدام الحرب لأغراض غير ديموقراطية، وينبه لعواقب ما بعد الحرب. طبعاً، الخطاب الثقافي العربي لم تصله الأنباء المترجمة بعد.

إن «ثقافة اليسار الأمريكي»، وهي أحد أوجه الثقافة الأمريكية، تشكل نقداً ومراجعة داخل النظام الليبرالي الرأسمالي المميز لتقاليد الديموقراطية الأمريكية، ويقابل ثقافة «اليسار الأمريكي» ـ أو ما يسمى أحياناً بـ«الثقافة المضادة» ـ ليبراليو النظام، الفضويون، وأتباع حرية العمل المدني، هذا داخل الإطار الليبرالي. أما بالنسبة للمحافظين فلدينا المحافظون التقليديون، الليبرتاريون، وأخيراً المحافظون الجدد. طبعاً هذه التنويعات التي يتعامى عنها الخطاب الثقافي العربي تشكل النقاش الجاري في الولايات المتحدة اليوم. يمكن القول إن ثقافة اليسار تأتي في سياق الثقافة الغربية من حيث نقدها للعلاقة بين المعرفة والسلطة، ولهذا فإن أخذ مجمل خطابها في سياقه أمر حسن. ولكن إخراج هذا الخطاب عن سياقه الغربي، أو استعماله من قبل أصوات ثقافية لبلدان متعثرة يسوقنا إلى الوقوع في أزمات جديدة، أن تنتشر كتب تشومسكي في ألمانيا، أو تذيع اطروحة إدوارد سعيد عن «الاستشراق» في الأكاديميات الفرنسية، فهذا يصب في سياق مراجعة ونقد مستمرين تفرزهما الثقافة الغربية المعاصرة لذاتها الابستمولوجية. ولكن أن يتعدى خطاب اليسار الثقافي إلى العالم العربي فهو انتزاع للخطاب عن سياقه الأصلي. وبالضرورة يتحول خطاب اليسار إلى خدمة الضمير المجروح في مناطق مهزومة، وإشباعاً دلالياً للنرجسية الثقافية العربية. طبعاً، هذا الوصف الأخير تهمة أيضاً ولكن هناك ما يؤكده، فعلى سبيل المثال تمثل نزعة «المواطنون العالميون» المتفرعة من فكرة «المجتمع المدني العالمي»، أحد التمثيلات التي بات يتخذها اليسار الثقافي الأمريكي في العقود الأخيرة.

بقي هنا أن أشير إلى بعض الملاحظات التي وردت في مقال الـ د. رضوان. أولاً، وصف أعمال المؤرخ برنارد لويس، حتى ولو كان مؤيداً لتعايش دولتين فلسطينية وإسرائيلية، بأنها تأخذ بنتائج خطيرة، كالتي ذكر أمر غير صحيح. يمكن للقارئ مراجعة كتب برنارد الأولى، الصادرة قبل أكثر من خمسين عاماً، والأخيرة ، ولا سيما كتابه الأخير «من بابل إلى دراجومان»، الصادر قبل عدة أشهر، ليجد أنه مؤرخ منصف وعميق، ومتعاطف حتى يطمئن البعض، ليس مع الإسلام كدين، بل وكحضارة عربية إسلامية عظيمة، حسب وصفه. يبدو أن د. رضوان يعتد فقط بالمؤرخين الفيلولوجيين الكلاسيكيين، الذين درس أعمالهم من أصحاب مدرسة الحوليات الفرنسية، وهو غير راض عن اتجاه «انثروبولوجيا الإسلام»، كإرنست غلنر الناقد المتميز، لأنهم دخلاء حسب رؤيته لينقدوا تراث الإسلام رغم تمتعهم بآليات حديثة ومتطورة لهكذا دراسات، عدم تعاطفهم لا يعني أنهم حاقدون، بل إن الحركة العلمية اليوم تتخذ هذا المنحى حتى في المدارس الفرنكفونية. المؤرخ برنارد لويس لا يختلف عن المدرسة الفيلولوجية التي يستثنيها د. رضوان، بل كل أعماله لا تخرج عن أصول وقواعد هذه المدرسة. ثانياً، رغم تقديم لويس استشارات للبيت الأبيض حول الشرق الأوسط، إلا أنه يعارض أن يوصف الإسلام كدين عنف، وقد نشر مقالة في الناشيونل بوست ابريل 2003، يجعل فيها النظام العراقي الدكتاتوري استيراد للأيديولوجيا الأوروبية، ويبرئ الإسلام كدين من هذا النظام حيث يقول: «إن فكرة الحكم المطلق غريبة تماماً عن الفكر الإسلامي حتى جعل التحديث مع الأسف ذلك الأمر ممكناً»، هل هذا الكلام يتفق مع اتهام د. رضوان؟.. لا أظن. ثالثاً، كتاب لويس، الذي زعم د. رضوان أن الرئيس الأمريكي قرأه وحثته هذه القراءة على غزو العراق أمر لم يقع، فالذي قرأ الكتاب واستضاف مؤلفه هو نائب الرئيس ديك تشيني وليس الرئيس. أما الرئيس فقد استضاف للاستشارة حول مسألة حرب العراق إمام المركز الإسلامي الأمريكي، سيد حسن القزويني في 29 يناير 2001. ثم إن عنوان الكتاب ليس «أين الخلل؟»، فهذا عنوان كتاب الفقيه القرضاوي، عنوان كتاب لويس هو «ما الذي ذهب خطأ؟»، وهو لم يصدر قبل سبتمبر، بل بعده بأشهر، وفي المقدمة يتابع مؤلفه الدفاع عن الإسلام وحضارته. ينبغي الإشارة هنا إلى أن برنارد لويس هو أحد أهم الشخصيات التي وقفت بعد 11 سبتمبر للدفاع عن المسلمين في أميركا، وتصريحاته وكذلك بيانه الشهير في حفل تكريمه في جامعة برينستون 2001 شاهدة على ذلك.

إذا لماذا يصر د. رضوان وبعض زملائه من خريجي المدرسة الفرنكفونية والجرمانية على الاستمرار في تكرار انتقادات اليسار للمدرسة الانجلوسكسونية، المهتمة بالشرق الأوسط. أتمنى ألا يكون ذلك تكريساً لنمط «الحمائية الثقافية»، التي مارست في الماضي الأيديولوجي العربي ـ وما زالت ـ الوصاية الثقافية طيلة العقود الماضية. «المحافظون الجدد» ليسوا سفاحي رؤوس، أو قتلة أطفال مدارس حتى يساوون بأصوليي العالم الإسلامي، ومختطفو الدين الإسلامي ليسوا صهاينة متخيلين، بل هم بعض مدعي تمثيله من رافعي الرايات الجهادية.

* كاتب سعودي

[email protected]