الأمة المخطوفة

TT

يروي ابن أبي الحديد في شرح «نهج البلاغة» أن معاوية بن أبي سفيان أرسل جيشا من أهل الكوفة لمحاربة الخارجي حوثرة بن وداع الأسدي، وكان في ذلك الجيش نفر وفير من الذين حاربوا في صفوف علي بن أبي طالب يوم صفين، فلما تواجه الجيشان ورأى حوثرة رفاق الأمس في الجبهة المناوئة قال لهم : يا أعداء الله كنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا بنيانه وها أنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه.

ولا تعرف من أعداء الله ومن أنصاره في المنطقة العربية ولا من يحارب منذ تلك الأيام ولا في سبيل ماذا ولماذا ؟ وربما يكون الرئيس الفرنسي على غير وعي بهذه الخلفيات التاريخية والعقائدية وهو يقول الأسبوع الماضي: فتحنا أبواب الجحيم في العراق.

لا يا فخامة الرئيس، أبواب الجحيم مفتوحة هناك منذ وقت طويل ولا نقول هذا لنبرئ ساحة الغرب بل لنفهم أنفسنا وعمق أزماتنا الفكرية والوجودية، فنحن وقبل أن نصبح أمة من خاطفي الرهائن كنا وما زلنا أمة مخطوفة ومنتوفة ومحاصرة ومصادرة لم تعرف الاستقرار إلا على فترات متقطعة تشبه لحظات صحو المريض المعالج بالأدوية الكيماوية.

منذ أبو لؤلؤة وابن ملجم والفتنة الكبرى ونحن نعيش في ظل الإرهابين، إرهاب الدولة وإرهاب الجماعات المتطرفة، والآن صار يحق لنا أن نغني في وصف حالنا أغنية «كامل الأوصاف» فقد جاءنا الإرهاب الثالث ممثلا في القوى الخارجية التي ما أن تصل إلينا حتى تنسى ديمقراطيتها وتسامحها واعتدالها وتصيبها العدوى فتبدأ بالقتل والسحل والتعذيب في السجون.

هل تغير حال المنطقة كثيرا عن حالها أيام الخوارج والقرامطة والزعران والبلطجية والعيارين و..و...و..؟ أشك في ذلك، فها نحن نصحو صباحا على بيان من «كتائب الأهوال» عن الرهينتين الإيطاليتين، ونفطر مع «أبي مصعب» وهو يهدد بالرهينة البريطانية، ثم يذبح سائق أو اثنين من المسلمين ليتبعهما برهينتين مسيحيتين حتى لا يقال انه لا يطبق مبدأ المساواة في الذبح على الطريقة الإسلامية. وقبل أن نكمل قهوتنا يتزاحم المناضلون على الشاشات ويصير لزاما علينا أن نسمع عن مشكلة سرايا «أسود التوحيد» مع الاستراليين وعن الفرنسيين الذين اختاروا كما قيل لنا أن يظلوا مع خاطفيهم ليكتبوا تاريخ المقاومة المجيد.

وكلها أخبار حية على الدوام، أما الذين تغيب أخبارهم بسرعة ولا تجد من يتابعها فالسائق الأردني والمرافق السوري والمهندس المصري وغيرهم من المنتمين لدول لا تتعب نفسها في السؤال عن الغائبين، فعندها وفرة في البشر وليس في بلاد الدموع تنظيمات تتظاهر بالشموع وتضغط بكل السبل لإطلاق سراح رهينة أو اثنتين.

إن مصيبتنا بالغرب وديمقراطيته أكبر من مصيبتنا بالاستبداد يا فخامة الرئيس لأننا ما أن أوشكنا على أن نتنفس ونقنع شعوبنا بأن المستبد العادل كالغول والعنقاء والخل الوفي غير موجود وأن عليهم البحث عن بدائل تعددية، حتى قدم كبيركم قضية محاربة الإرهاب على مسألة مقاومة الاستبداد، وها هو ومعه بعضكم يتصرفون مثل خصوم حوثرة الأسدي وينتقلون بين النقائض من دون أن يرمش لهم جفن ودون أية ذرة أخلاق غير حماية المصالح المادية وهو ذات الهدف الذي كان يحرك خصوم حوثرة قبل وبعد صفين.